الوقت- يشهد جنوب لبنان تصعيدًا عسكريًا متواصلًا من قبل كيان الاحتلال الإسرائيلي، في سياق يتجاوز منطق الاشتباك الحدودي أو الردع الأمني، ليطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة الأهداف الحقيقية لهذا العدوان، فبينما يروّج كيان الاحتلال لرواية تزعم استهداف مواقع عسكرية، تتكشف على الأرض معطيات مغايرة تشير إلى نمط ممنهج من ضرب المناطق المدنية والبنية التحتية، في خرق واضح للقانون الدولي الإنساني واتفاق وقف اطلاق النار، ومع توالي التقارير الحقوقية المستقلة، بات المشهد أكثر وضوحًا: ما يجري في جنوب لبنان ليس عمليات عسكرية دقيقة، بل سياسة قصف تطال المدنيين ومقومات الحياة، في ظل غياب شبه كامل لأي أدلة تثبت وجود أهداف عسكرية في المواقع المستهدفة.
في ظل محاولة تسويق الإجرام الاسرائيلي دوليًا باعتباره “دفاعًا عن النفس”، تكشف تقارير حقوقية دولية، الفجوة الواسعة بين الرواية الإسرائيلية وما يجري على الأرض، وتؤكد أن الضربات الاسرائيلية لا تستهدف مواقع عسكرية بقدر ما تطال مناطق مدنية، الأمر الذي كشفته بكل وضوح تقرير لمنظمة هيومن رايتس وواتش.
هيومن رايتس ووتش تفكك الرواية الإسرائيلية
في تقرير واضح اللهجة، أكدت منظمة هيومن رايتس ووتش أن كيان الاحتلال الإسرائيلي يقوم بتدمير غير قانوني للمعدات والآلات المستخدمة في إعادة الإعمار في جنوب لبنان، الأخطر من ذلك أن المنظمة شددت على أنها لم تعثر على أي دليل يشير إلى وجود أهداف عسكرية في المناطق التي تعرضت للقصف، هذا الاستنتاج لا يصدر عن جهة سياسية أو إعلامية، بل عن منظمة حقوقية دولية تعتمد منهجيات تحقيق صارمة، ما يمنحه وزنًا قانونيًا وأخلاقيًا كبيرًا.
استهداف الإعمار كسياسة ممنهجة
تدمير معدات إعادة الإعمار لا يمكن تفسيره عسكريًا بأي حال من الأحوال، فهذه الآلات ليست منصات صواريخ ولا مخازن أسلحة، بل أدوات مدنية تُستخدم لإصلاح ما دمرته الحروب السابقة، استهدافها يعكس نية واضحة لإبقاء جنوب لبنان في حالة شلل دائم، ومنع السكان من استعادة الحد الأدنى من الحياة الطبيعية، هذا النمط يعيد إلى الأذهان سياسات كيان الاحتلال الإسرائيلي في غزة، حيث جرى استهداف محطات الكهرباء والمياه والمستشفيات ضمن استراتيجية إنهاك المجتمع المدني.
خروقات متكررة لوقف إطلاق النار
إلى جانب القصف المباشر، وثّقت تقارير ميدانية خروقات إسرائيلية متكررة لاتفاق وقف إطلاق النار، تمثلت في استمرار استهداف المباني والمناطق السكنية. هذه الخروقات لا يمكن فصلها عن السياق العام للعدوان، إذ تشير إلى استخفاف كامل بالالتزامات الدولية، وتعكس قناعة راسخة لدى كيان الاحتلال الإسرائيلي بأنه فوق المساءلة، وفي المقابل، يدفع المدنيون اللبنانيون الثمن، مع استمرار سقوط الشهداء وتوسع رقعة الدمار.
غياب الأهداف العسكرية… حقيقة موثقة
أهم ما في تقرير هيومن رايتس ووتش ليس فقط إدانة الاستهداف، بل التأكيد الصريح على غياب أي أهداف عسكرية في المناطق المقصوفة، هذا المعطى ينسف جوهر الادعاء الإسرائيلي القائم على “ضرب البنية التحتية لحزب الله”، فعندما تؤكد منظمة مستقلة أنها لم تجد أدلة على وجود أهداف عسكرية، فإن ذلك يعني أن الضربات تندرج قانونيًا ضمن إطار الهجمات العشوائية أو المتعمدة ضد المدنيين، وهي جرائم محظورة بموجب القانون الدولي الإنساني.
التهديدات الإسرائيلية والابتزاز السياسي
في موازاة القصف، نقلت وكالة الأنباء الإسرائيلية “كان” مزاعم عن إعداد جيش كيان الاحتلال الإسرائيلي لخطة هجومية واسعة النطاق ضد لبنان، ترافقها رسائل تهديد مباشرة تقول: “إذا لم تتخذوا إجراءً ضد حزب الله، فسوف نوسع نطاق هجماتنا”، هذا الخطاب لا يعكس منطقًا دفاعيًا، بل ابتزازًا سياسيًا وعسكريًا لدولة ذات سيادة، ومحاولة لفرض معادلة قسرية عبر استهداف المدنيين والبنية التحتية.
واشنطن تكبح الهجوم… لماذا؟
اللافت أن مصادر إسرائيلية أقرت بتوقف خطة هجوم واسع ومتعدد الأيام على بيروت، تحت ضغط مباشر من واشنطن، هذا التدخل الأمريكي لا ينطلق من اعتبارات إنسانية بقدر ما يعكس خشية من انفجار إقليمي واسع، التقييمات الأمنية في تل أبيب نفسها تشير إلى أن القدرات العسكرية لحزب الله لا تزال سليمة، وأنه قادر على الرد بقوة، هذا الاعتراف الضمني يكشف محدودية فعالية الضربات الإسرائيلية، ويطرح تساؤلًا جوهريًا: إذا كانت القدرات العسكرية للمقاومة لم تُمس، فمن الذي يُستهدف فعليًا؟
المدنيون كهدف بديل
حين تعجز القوة العسكرية عن تحقيق أهدافها الاستراتيجية، غالبًا ما تتحول إلى استهداف المدنيين كوسيلة ضغط غير مباشرة، هذا ما تشير إليه الوقائع في جنوب لبنان، حيث يُقصف الحجر والبشر، بينما تبقى البنية العسكرية للمقاومة خارج دائرة التأثير الحاسم، هذه السياسة ليست جديدة في سجل كيان الاحتلال الإسرائيلي، بل تشكل جزءًا من عقيدته العسكرية القائمة على “الردع عبر الإيذاء المجتمعي".
القانون الدولي في مواجهة الإفلات من العقاب
وفق القانون الدولي الإنساني، يُحظر استهداف الأعيان المدنية أو تدميرها دون ضرورة عسكرية ملحة، كما يُحظر استخدام القوة بشكل عشوائي أو غير متناسب، ما توصلت إليه هيومن رايتس ووتش يضع كيان الاحتلال الإسرائيلي في مواجهة مباشرة مع هذه القواعد، ويعزز المطالبات بفتح تحقيقات دولية مستقلة، غير أن المشكلة لا تكمن في نقص الأدلة، بل في غياب الإرادة السياسية لمحاسبة الجناة.
إلا أن الصمت دولي يبقى سيد الموقف
رغم وضوح التقارير الحقوقية، لا يزال رد الفعل الدولي خجولًا، إن لم يكن متواطئًا. هذا الصمت يعكس انتقائية فاضحة في تطبيق معايير حقوق الإنسان، حيث تُدان انتهاكات بعض الدول بسرعة، بينما يُمنح كيان الاحتلال الإسرائيلي حصانة غير معلنة، هذه الازدواجية لا تقوض فقط ثقة الشعوب بالقانون الدولي، بل تشجع على تكرار الجرائم.
لبنان بين الصمود والخذلان
في ظل هذا الواقع، يواصل لبنان زف المزيد من الشهداء، وسط عجز دولي عن توفير الحماية للمدنيين. ورغم ذلك، تكشف التجربة أن استهداف المدنيين لم ينجح تاريخيًا في كسر إرادة الشعوب، بل غالبًا ما يعمّق الإحساس بالظلم ويعزز خيارات المقاومة، هذا الدرس يبدو غائبًا عن حسابات كيان الاحتلال الإسرائيلي، الذي يكرر الأخطاء ذاتها في كل ساحة.
الحقيقة أقوى من الرواية
ما تؤكده الأدلة، وما وثقته هيومن رايتس ووتش، هو أن كيان الاحتلال الإسرائيلي لا يستهدف مواقع عسكرية في جنوب لبنان بقدر ما يشن هجمات على مناطق مدنية وبنية إعادة الإعمار، في انتهاك واضح للقانون الدولي، ومع تآكل الرواية الإسرائيلية أمام التقارير الحقوقية، تتعزز القناعة بأن المشكلة ليست في “سوء فهم” أو “أخطاء ميدانية”، بل في نهج عدواني ممنهج، وفي عالم تتراكم فيه الأدلة، يصبح السؤال الحقيقي ليس عن طبيعة الجرائم، بل عن موعد محاسبة مرتكبيها.
