الوقت- في خضم التطورات المتسارعة في قطاع غزة، برز ملف مقاتلي حركة حماس المحاصرين في رفح ليصبح أحد أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا في مسار التهدئة الجارية بين الحركة والاحتلال الإسرائيلي بوساطة أمريكية، فقد كشفت وسائل إعلام عبرية وأخرى دولية أنّ واشنطن تربط حل هذه الأزمة الميدانية بتفاهمات سياسية أوسع، من بينها إبعاد عدد من قادة الحركة إلى خارج القطاع، في إطار ما بات يوصف بأنه محاولة أمريكية لإعادة صياغة المشهد الأمني والسياسي في غزة بعد أشهر طويلة من المواجهات، ويبدو أن هذا الربط ليس مجرد تفصيل عابر، بل يعكس رغبة أمريكية واضحة في توظيف اللحظة الميدانية الراهنة لفرض حلول دائمة تتجاوز حدود الملف الإنساني أو العسكري، وتمتد إلى شكل الحكم والوجود العسكري داخل غزة في المرحلة المقبلة.
حسب التقارير العبرية، فإن هيئة البث التابعة للاحتلال الإسرائيلي نقلت عن مصادر مطلعة أن الإدارة الأمريكية تمارس ضغوطًا حثيثة على الاحتلال من أجل الموافقة على مقترح تقدّم به الوسطاء يتضمن إنشاء "ممر آمن" يسمح بخروج مقاتلي حماس المحاصرين من مناطق داخل رفح تخضع لسيطرة القوات الإسرائيلية، ونقلهم إلى مناطق أخرى داخل القطاع لا تسيطر عليها قوات الاحتلال، ويُنظر إلى هذه الخطوة بوصفها جزءًا من تفاهمات أوسع تتضمن إبعاد شخصيات قيادية في الحركة إلى الخارج، في إطار ترتيبات سياسية قد تمهّد لتنفيذ بنود من خطة أمريكية أوسع ترتكز على إعادة هيكلة الوضع الأمني في القطاع.
وتشير التقارير أيضًا إلى أن واشنطن تعتبر هذا الإجراء مدخلًا مهمًا لاستكمال المرحلة الأولى من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتعلقة بغزة، والتي شهدت تنفيذًا جزئيًا من خلال تبادل الأسرى وانسحاب الاحتلال من بعض المناطق، أما المراحل المتبقية من الخطة، فهي لا تزال عالقة بسبب تعقيدات ميدانية وسياسية، أهمها وجود مقاتلي حماس في جيوب معزولة داخل رفح، واستمرار شبكة الأنفاق التي تُعد عنصر قوة أساسيًا للحركة.
وفي الوقت الذي تضغط واشنطن فيه لدفع هذا المسار، تُظهر القيادة الإسرائيلية ترددًا واضحًا، فحسب وسائل إعلام عبرية أخرى، هناك انقسام داخل حكومة الاحتلال حول المقترح الأمريكي، إذ يرى بعض المسؤولين أن السماح بخروج مقاتلي الحركة أو إبعاد قادتها قد يُفسَّر على أنه تنازل خطير، وقد يتيح للحركة إعادة تنظيم صفوفها مستقبلًا، بينما ترى أوساط أخرى أن القبول بالمقترح قد يشكّل مخرجًا استراتيجيًا لتجنب مزيد من التصعيد في رفح، وخاصة أن أي محاولة لتفجير الأنفاق أو إغراقها بالمياه قد تؤدي إلى انهيار اتفاق التهدئة القائم.
من جهة أخرى، تؤكد حركة حماس وكتائب القسام أنها غير معنية بأي صيغة من صيغ الاستسلام، فقد حسمت الحركة موقفها عبر تصريحات واضحة تفيد بأن مقاتليها لن يسلموا أنفسهم تحت أي ظرف، وترى الحركة أن مقترحات الخروج عبر ممر آمن أو الإبعاد السياسي يجب أن تأتي ضمن تفاهمات تحفظ "كرامة المقاومة"، وليست ضمن صيغ تُفرض عليها تحت ضغط عسكري، وفي الوقت نفسه، تنفي الحركة ضلوع مقاتليها المحاصرين في بعض الهجمات التي سعى الاحتلال إلى توظيفها ذريعة لمزيد من العمليات العسكرية، مؤكدة أن استخدام هذه الذرائع قد يقوّض أي تقدم سياسي.
المصادر العبرية تحدثت أيضًا عن أن الاتصالات بين الأطراف المعنية تشمل تفاهمات مرتبطة بتدمير الأنفاق المحيطة برفح بعد خروج المقاتلين، إلى جانب طرح نموذج تجريبي لإدارة مدينة غزة في مرحلة ما بعد الحرب، بحيث تُدار مناطق معينة من قبل سكان محليين غير مرتبطين بالحركة، مع وجود قوة رقابة دولية تتولى الإشراف الأمني والإداري، هذه الخطوة، وفق مراقبين، تُعدّ جزءًا من رؤية أميركية تسعى لتهيئة بيئة سياسية جديدة في غزة، تمنع عودة المواجهات المسلحة وتتيح إعادة إعمار القطاع تحت رقابة خارجية.
وفي الوقت الذي تتواصل فيه هذه الاتصالات، تتحدث وسائل إعلام إسرائيلية عن خلافات قائمة بين واشنطن والاحتلال بشأن مصير المقاتلين المحاصرين، فقد نقلت تقارير أن الولايات المتحدة طلبت من الاحتلال السماح بخروج هؤلاء المسلحين دون أسلحة، على أن يشكل ذلك جزءًا من عملية نزع السلاح في القطاع. غير أن القيادة الإسرائيلية رفضت هذا المقترح، معتبرة أنه قد يؤدي إلى تعزيز "شرعية المقاومة" ويفتح الباب أمام تسويات مستقبلية تمنح الحركة دورًا سياسيًا أكبر مما يرغب به الاحتلال.
الدور الأمريكي المتصاعد في هذه الأزمة لا يقتصر على الجانب الضاغط، بل يمتد إلى محاولة منع انهيار اتفاق التهدئة عبر تجنب سيناريوهات كارثية، مثل قيام الاحتلال بتفجير الأنفاق أو ضخّ المياه فيها، ما قد يؤدي إلى مقتل المقاتلين المحاصرين داخلها، وبالتالي انهيار الاتفاق بشكل كامل، وتدرك واشنطن أن أي انهيار من هذا النوع لن يؤثر فقط على المسار الأمني، بل قد يؤدي إلى انفجار جديد في المنطقة وإحراج كبير للإدارة الأميركية أمام شركائها، وخاصة أن بعض تفاصيل خطة السلام الحالية مرتبطة بالانتخابات الأمريكية وتوازنات القوى داخل واشنطن.
كل هذه العوامل تجعل من أزمة مقاتلي حماس المحاصرين في رفح أكثر من مجرد قضية ميدانية؛ إنها عقدة سياسية تفاوضية تتقاطع فيها مصالح الأطراف الثلاثة: الولايات المتحدة التي تسعى لتثبيت تهدئة طويلة الأمد واستثمار اللحظة السياسية الحالية، والاحتلال الذي يوازن بين حاجته للتهدئة ومخاوفه الأمنية، وحماس التي تحاول الحفاظ على وجودها ومكانتها دون تقديم تنازلات تُضعفها أمام جمهورها.
وفي المحصلة النهائية، يبدو أن حل أزمة مقاتلي رفح سيكون مؤشرًا مهمًا على اتجاه التهدئة في غزة، فإذا تم التوصل إلى حل يضمن خروج المقاتلين بضمانات تحترم حقوقهم وتحقق توازنًا بين الأطراف، فربما يشكل ذلك خطوة أولى نحو تسوية أوسع، أما إذا تعثرت الاتصالات، فقد يعيد ذلك المنطقة إلى دائرة التصعيد. ومع غياب إعلان رسمي حتى اللحظة، يبقى المستقبل مفتوحًا على جميع الاحتمالات، في انتظار قرار قد يحدد شكل المرحلة المقبلة من الصراع في غزة بأكمله.
