الوقت- إنّ إصدار عقيدة الأمن القومي الجديدة خلال فترة رئاسة دونالد ترامب، ليس مجرد مراجعة تقليدية للمدونات الاستراتيجية الأمريكية، بل هو أقرب إلى محاولة فلسفية وعملية للتأقلم مع معالم نظام دولي آخذ في التبدّل، نظام باتت مفاهيم كـ"النظام الهيمني الأمريكي" و"السلام الأمريكي" (Pax Americana) محل شكوك وتساؤلات لم يسبق لها مثيل.
منذ انتهاء الحرب الباردة وحتى مطالع القرن الحادي والعشرين، بسطت الولايات المتحدة سلطانها على النظام العالمي، مستندةً إلى تفوقها العسكري، وشبكة تحالفاتها، ومؤسساتها متعددة الأطراف، وقدرتها على إضفاء الشرعية على خطاب الديمقراطية الليبرالية، فكان نظامها نظاماً أقرب إلى السكون الراسخ. بيد أن مزاياها البنيوية، التي كانت يوماً حصوناً منيعة، بدأت تتصدع تدريجياً، مع صعود قوى جديدة، وعلى رأسها الصين، وفشل مغامراتها في الشرق الأوسط، فانقلبت تلك السكينة إلى اضطراب، وتحوّل ذلك الصعود إلى انحدار.
لقد جاءت عقيدة ترامب في لحظة تاريخية حاسمة، تزامناً مع عجز القيادة الأمريكية ذات النزعة العالمية عن مواكبة التغيرات العميقة التي عصفت بالنظام الدولي. وجدت واشنطن نفسها أمام مفترق طرق: إما أن تسعى إلى إصلاح النظام الليبرالي ودمج القوى الصاعدة فيه، أو تنسحب من التزاماتها الهيمنية، وتعيد تعريف دورها في إطار جغرافي وسياسي أكثر انكماشاً. وقد كان اختيار ترامب واضحاً كالشمس في رابعة النهار، إذ فضّل التراجع المنهجي على الإصلاح الشامل.
تعكس هذه العقيدة تحولاً جذرياً من خطاب القيادة العالمية إلى خطاب القومية الأمنية، ومن نزعة الهيمنة المطلقة إلى عزلة محسوبة، تتوازن فيها الأولويات مع المصالح الذاتية. ويمكن تتبع هذا التحول بوضوح في لغة الوثيقة وأولوياتها المفاهيمية وفلسفتها السياسية. فبينما كانت عقائد الأمن القومي في عهود كلينتون وبوش وأوباما تُعرّف مصالح الولايات المتحدة في إطار تثبيت النظام الليبرالي العالمي، تتأسس عقيدة ترامب على فرضية مفادها أن الانخراط الأمريكي العميق في إدارة شؤون العالم قد تحول من مكسب استراتيجي إلى عبء مرهق، لم تعد الولايات المتحدة قادرةً أو راغبةً في تحمله.
في هذا التصور، تجد واشنطن نفسها غارقةً في تكاليف الدفاع عن أوروبا ضد روسيا، وحماية الأنظمة الخليجية من الأخطار المحدقة، بينما تمضي قوى كالصين والهند والبرازيل في بناء اقتصاداتها وتراكم ثرواتها، غير مكترثة بتكاليف الأمن العالمي. ومن ثم، جاءت عقيدة ترامب لتضع حداً لهذا النزيف، معتبرةً أن الحفاظ على الأمن القومي الأمريكي يقتضي انسحاباً مدروساً من الالتزامات الدولية المرهقة، وتركيزاً على الداخل وما يحقق مصالحه.
منذ انقضاء الحرب الباردة، ظل العالم يعيش تحت مظلة ما عُرف بـ"السلام الأمريكي"، وهيمنته التي حافظت عليها واشنطن عبر قوتها العسكرية والاقتصادية، وشبكة تحالفاتها الممتدة. غير أن هذه المظلة بدأت تتآكل شيئاً فشيئاً مع مرور العقود، بفعل الحروب المستنزفة في الشرق الأوسط، وصعود قوى جديدة تنازع الولايات المتحدة نفوذها.
إن عقيدة ترامب، في هذا الإطار، ليست إلا إعلاناً رسمياً عن انتهاء تلك الهيمنة، ودخول العالم في عصر جديد، تتراجع فيه الولايات المتحدة عن دورها كضامن وحيد للنظام الدولي، وتتبنى دوراً أكثر تواضعاً، لكنه أكثر انسجاماً مع قدراتها الفعلية. هذا التحول لم يكن خياراً عشوائياً، بل ضرورة فرضتها المتغيرات الجيوسياسية والاقتصادية، التي لم تترك للولايات المتحدة سوى أن تُعيد تعريف موقعها في عالم لم يعد خاضعاً لسيطرتها المطلقة.
لم تكن بداية أفول الهيمنة الأمريكية لحظةً عابرةً أو وليدة ظرف طارئ، بل كانت نتاجاً لتحولات تراكمية امتدت لعقود. فمنذ مغامراتها العسكرية في الشرق الأوسط، وما جرّته من استنزاف للموارد والسمعة، إلى صعود قوى كالصين والهند والبرازيل، أخذت موازين القوة العالمية تميل تدريجياً بعيداً عن كفة الولايات المتحدة.
إن عقيدة ترمب ليست مجرد وثيقة استراتيجية، بل هي انعكاس لتحول جوهري في رؤية أمريكا لنفسها ولدورها في العالم. إنها محاولة لتخفيف الأعباء، وإعادة توجيه الموارد نحو الداخل، في وقت باتت فيه الولايات المتحدة تواجه قوى جديدة تنافسها في كل المجالات، دون أن تتحمل الأعباء نفسها.
في عقيدة ترامب، لا يُعزى تراجع الهيمنة الأمريكية إلى التحولات البنيوية في النظام الدولي ولا إلى إخفاقات التدخلات العسكرية التي أرهقت مواردها، بل يُصوَّر هذا الأفول على أنه نتاج ما يُسمَّى استغلال الآخرين لسخاء واشنطن المفرط. ففي تصور ترامب، بدت الولايات المتحدة كمن منح الأوروبيين وغيرهم “ركوباً مجانياً” على مركبها، حان الوقت لتدفعهم إلى النزول منه. وبهذا التصور، يتحول الحلفاء التقليديون إلى مقاولين يثقلون كاهل الخزينة الأمريكية، بينما تُقدَّم القوى الصاعدة كخصوم انتهازيين، استغلوا قواعد النظام الليبرالي لمصالحهم الذاتية.
لكن في هذا المشهد، تتجلى مكامن الضعف الجوهرية في عقيدة ترامب؛ فهي محاولة لمعالجة أزمة الهيمنة عبر تعديل التكتيكات الخارجية دون التفات جاد إلى جذور التدهور الداخلي، من استقطاب المجتمع إلى أزمة الشرعية السياسية، ومن الشلل الاقتصادي إلى التآكل المتزايد في ثقة الحلفاء.
استراتيجية الهبوط الناعم
ترتكز عقيدة الأمن القومي في إدارة ترامب على إعادة صياغة جذرية لدور أمريكا في النظام الدولي، متخليةً عن نموذج القيادة العالمية المتكئة على المؤسسات والتحالفات المستدامة، لصالح منطق المنافسة السافرة بين القوى وتعظيم المكاسب القومية. المحور الأول في الوثيقة يتمثل في الإقرار بعودة التنافس بين القوى الكبرى كحقيقة لا تقبل الإنكار في المشهد السياسي العالمي.
فبعدما كانت الهيمنة الأمريكية المطلقة افتراضاً لا ينازع منذ انتهاء الحرب الباردة، تعيد عقيدة ترامب تصوير العالم كساحة صراع مفتوح بين القوى العظمى، حيث تتبوأ الصين موقع الخصم البنيوي طويل الأمد، وتُعَرَّف روسيا بوصفها لاعباً يسعى إلى مراجعة النظام القائم. بهذا التشخيص، تلمّح الوثيقة إلى نهاية الحقبة الأحادية القطبية أو احتضارها، إلا أن غياب خطة استراتيجية شاملة لإدارة هذا التنافس يجعل الوثيقة أشبه بصرخة في وادٍ. وفي غياب هذه الخطة، تعتمد واشنطن على أدوات اقتصادية عقابية واستعراضات ظرفية للقوة الصلبة، وهو نهج لا يضمن كبح صعود الخصوم ولا يعزز التفوق الأمريكي.
أما المحور الثاني فيتمثل في الربط العضوي بين الأمن القومي والأمن الاقتصادي. وللمرة الأولى، تضع الوثيقة قضايا كشبكات الإمداد، والعجز التجاري، والتبعية التكنولوجية، والسياسات الصناعية في قلب تعريف التهديدات الأمنية. هذا التوجه يعكس القلق المتزايد من التفوق التكنولوجي الصيني وتراجع مكانة الولايات المتحدة في مجالي الإنتاج والتجارة العالمية. فجاءت الحرب التجارية مع الصين، وفرض الرسوم الجمركية على الحلفاء، وتقييد الشركات الصينية في المجالات التكنولوجية الحساسة، امتداداً لهذا النهج.
لكن تقزيم الصراع الاقتصادي إلى حرب رسوم متبادلة، دون إعادة بناء نظام تجاري متعدد الأطراف أو التنسيق مع الحلفاء، قاد إلى عزلة واشنطن بدلاً من تحجيم بكين، وحوّل الأمن الاقتصادي إلى ذريعة لدعم السياسات الحمائية الداخلية.
والمحور الثالث في عقيدة ترامب يتمثل في تقليص الالتزامات الأمريكية العابرة للأقاليم، وإعادة تعريف مسؤولياتها تجاه الحلفاء. فقد اتهم ترامب شركاء بلاده التقليديين باستغلال المظلة الأمنية الأمريكية وتحميل واشنطن كلفة الدفاع الجماعي. ومن هذا المنطلق، طالب بزيادة المساهمات المالية من حلف الناتو والشركاء الآسيويين، ولوّح بتقليص الالتزامات العسكرية. لكن هذه السياسة أضعفت إحدى ركائز الهيمنة الأمريكية، وهي شبكة التحالفات التي كانت تمثّل وسيلةً لتوزيع الأعباء وحشد القوة الجماعية. إذ إن الهيمنة المستدامة ليست مجرد نتاج للتفوق المادي، بل ثمرة قدرة على قيادة التحالفات وصناعة التوافقات، وهي قدرة قوّضتها مقاربة ترامب القائمة على المعاملات التجارية.
أما المحور الرابع فيتمثل في استبدال الدبلوماسية القائمة على المؤسسات بمنهجية تعاقدية صرفة. فالعلاقات الدولية، وفق هذا التصور، تتحول إلى سوق للمساومات الثنائية، حيث يُشترط أن تُحقق كل اتفاقية مكاسب مباشرة وفورية لواشنطن. وفي ظل هذا النهج، تُهمَّش المؤسسات الدولية والترتيبات متعددة الأطراف، ويتجلى ذلك في انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ، والتشكيك في منظمة التجارة العالمية، وتجاهل آليات ضبط التسلح. لكن هذا الفراغ المؤسسي أضعف النفوذ الناعم لأمريكا، وفتح المجال أمام قوى كالصين وروسيا لإعادة تشكيل قواعد النظام العالمي.
الشرق الأوسط: من الهندسة إلى إدارة الأزمات
في سياق عقيدة ترامب، فقدت منطقة غرب آسيا، أو ما يُعرف بالشرق الأوسط، مكانتها المحورية التي احتلتها خلال حقبة الحرب الباردة وما أعقبها من أحداث الحادي عشر من سبتمبر. غدت المنطقة، في نظر واشنطن، ساحةً تستنزف الموارد دون عائد يُذكر، فكان استمرار الوجود العسكري المكثف فيها أقرب إلى تبديد للموارد منه إلى استثمار استراتيجي.
بناءً على ذلك، ارتكزت استراتيجية واشنطن على تقليص وجودها العسكري المباشر، وتسليم إدارة الأزمات إلى الحلفاء الإقليميين، مع استخدام محدود للأدوات القسرية ضد الخصوم. وبدلاً من مشروع هندسة نظام ليبرالي تقوده أمريكا عبر تدخلات نشطة، تبنّت واشنطن نهجاً يقوم على إدارة الأزمات، في إشارة إلى تخليها عن إعادة بناء نظام عالمي يتمحور حولها، وقبولها بتعددية الأقطاب في ميدان القوة الإقليمية.
تركزت سياسة ترامب في هذه المنطقة على خلق توازن قوى بالوكالة بين المحور العبري-العربي من جهة، ومحور المقاومة من جهة أخرى. وبينما كان الهدف المعلن هو خفض التوترات من خلال توحيد الحلفاء الإقليميين، فإن النتيجة الفعلية كانت إعادة إنتاج الانقسامات الجيوسياسية بصيغ جديدة، مما جعل واشنطن طرفاً مباشراً في صراع أوسع.
إنّ سياسة “الضغط الأقصى” التي انتهجتها إدارة ترامب تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتي استُهلّت بالخروج من الاتفاق النووي وتشديد العقوبات، لم تُثمر عن تغييرٍ في سلوك طهران الاستراتيجي، ولا عن الحد من نفوذها الإقليمي. بل على العكس من ذلك، أفسحت الانسحابات العسكرية الأمريكية من سوريا والعراق المجال أمام جبهة المقاومة، وروسيا، وتركيا، لتوسيع رقعة نفوذها. وإن كان تقليص الالتزامات العسكرية المباشرة والخروج من الحروب التي لا نهاية لها قد لقي ترحيباً داخل الولايات المتحدة، إلا أنه على الصعيد الإقليمي أفضى إلى فراغٍ في موازين القوى، وإلى تعدّد الأصوات الفاعلة في المشهد، مما حوّل دور أمريكا من صانعٍ للنظام إلى لاعبٍ هامشي يكتفي بإدارة الأزمات بأدنى المستويات.
من هذا المنظور، يبدو واضحاً أنّ ترامب كان مدفوعاً إلى تقليص وجود بلاده في الشرق الأوسط، سواء لمواجهة التحديات العسكرية والجيوسياسية الناشئة عن صعود الصين، أو لتخفيف الأعباء المالية والتركيز على الداخل الأمريكي. ومع ذلك، لا تزال الوثيقة تعتبر الجمهورية الإسلامية تهديداً قائماً. ولكنها، في الوقت ذاته، تُظهر أنّ الولايات المتحدة لا ترغب في حمل عبء هذا الصراع على كاهلها منفردةً، بل تسعى إلى إلقاء هذا الحمل على عاتق “شرطيٍّ إقليمي”، يتمثل في تحالف عربي-إسرائيلي، تدعمه واشنطن بتعزيز قدراته التسليحية، ليضطلع بمهمة احتواء الخصوم ومواجهة القوى المناوئة.
أوروبا وأزمة التماسك عبر الأطلسي
لم تعد أوروبا، التي طالما شكّلت أحد أعمدة النظام الأمريكي المحوري، تحتل في عقيدة ترامب سوى موقع مجموعةٍ من اللاعبين العاجزين المثقلين بالأعباء. فقد أدت مطالبة الدول الأوروبية بزيادة إنفاقها الدفاعي في حلف الناتو، والتهديد بتقليص الالتزامات الأمريكية أو الانسحاب من الحلف، إلى تقويض مفهوم الردع الجماعي، وإضعاف الثقة المتبادلة، وزعزعة انسجام المؤسسات الأطلسية. وفي هذا النهج، تغافلت إدارة ترامب عن الأهمية الجيوسياسية والرمزية لأوروبا في ترسيخ القيادة العالمية للولايات المتحدة، متناسيةً أنّ الهيمنة الأمريكية لم تُبنَ على القوة العسكرية وحدها، بل على شبكةٍ متينة من التحالفات.
إن انسحاب واشنطن من الاتفاقيات متعددة الأطراف، وتبنّيها سياسات تصادمية تجاه مؤسساتٍ كمنظمة التجارة العالمية واتفاقية باريس للمناخ، قد عمّق الهوة القيمية والمؤسسية بين ضفتي الأطلسي، ودفع الاتحاد الأوروبي إلى التفكير في تحقيق “استقلال استراتيجي”. ومن زاويةٍ نقدية، يظهر هذا النهج متناقضاً مع شعار “أمريكا أولاً”، إذ إنّ إضعاف التحالف الأطلسي يضر بمصالح الولايات المتحدة على المدى البعيد، ويحوّل دورها من زعيمٍ طوعي للنظام الغربي إلى لاعبٍ متطلبٍ فاقدٍ للثقة، مما جعل حلف الناتو أكثر هشاشةً، وأبرز مؤشرات الأفول الهيمني حتى في قلب المعسكر الغربي ذاته، حيث تتجلى أزمة القيادة والثقة.
محاولات متعثرة لكبح جماح الصين وسط تآكل القيادة الأمريكية
عرّفت عقيدة ترامب شرق آسيا بأنه الساحة الرئيسية لصراع القوى الكبرى، وميدان المواجهة مع الصين، التي وُصفت بأنها “منافسٌ استراتيجي منهجي” يسعى إلى إعادة صياغة النظام العالمي بما يتعارض مع المصالح الأمريكية. ويبدو هذا الوصف متسقاً مع صعود الصين المتعدد الأبعاد، غير أنّ ضعف العقيدة يكمن في غياب استراتيجية شاملة ومتماسكة لاحتواء هذا المنافس.
اقتصرت سياسة ترامب العملية في المنطقة على شن حربٍ تجارية، وزيادة الرسوم الجمركية، وتقييد التكنولوجيا. ورغم ما أحدثته هذه الإجراءات من اضطرابات في الاقتصاد العالمي، وما سببته من توترات مع الحلفاء، فإنها لم تضمن تحقيق احتواءٍ فعّال للصين. وزاد الأمر تعقيداً انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، الذي كان يمكن أن يشكّل فرصةً ذهبيةً لقيادة كتلةٍ تجارية مناوئة للصين. بدلاً من ذلك، فُتِح المجال أمام مبادرات صينية كـ"الحزام والطريق"، لتوسيع نفوذها دون عوائق تُذكر.
وفي وثيقة الأمن القومي لعام 2025، شهدت مكانة الصين إعادة تعريفٍ ملفتة، حيث لم تعد تُصنَّف كتهديدٍ شامل يستوجب مواجهةً استراتيجية متكاملة، بل كـ"منافسٍ اقتصادي-تكنولوجي" ضمن ميادين تنافسية متعددة. وعلى النقيض من وثيقة إدارة بايدن لعام 2022، التي اعتبرت الصين التحدي الجيوسياسي الأكبر ورمزاً للصراع الأيديولوجي بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، ركزت وثيقة 2025 على قضايا كاختلال التوازنات التجارية، والدعم الصناعي الحكومي، وضعف سلاسل الإمداد، دون أن تتبنى سياسة “احتواء شامل”، بل اكتفت بالدعوة إلى “إعادة ضبط العلاقات الاقتصادية” بناءً على مبدأ المنفعة المتبادلة. وتضمنت الاستراتيجية المقترحة فرض قيودٍ على التجارة في القطاعات الحساسة، وتشديد الضغوط التعريفية والقانونية للحد من القدرات الصناعية الزائدة للصين، مع الإبقاء على علاقة اقتصادية متوازنة نسبياً.
أما على الصعيد الأمني، فقد أثارت مطالبة اليابان وكوريا الجنوبية بزيادة مساهماتهما المالية وتهديد واشنطن بتقليص وجودها العسكري، شكوكاً لدى حلفائها التقليديين، ودفعهم إلى تعزيز قدراتهم الدفاعية المستقلة وتنويع شراكاتهم الدولية. وفي بحر الصين الجنوبي، ورغم استمرار استعراض القوة البحرية الأمريكية، فإن غياب مبادرة إقليمية شاملة دفع بدول آسيان، التي تعتمد اقتصادياً على الصين، إلى تجنب الانحياز الواضح لسياسات واشنطن التصادمية. وهكذا، أفضى الاعتماد المفرط على الأدوات الاقتصادية العقابية، مع إهمال الآليات المؤسسية والتنموية، إلى ترسيخ صورة الولايات المتحدة كقوةٍ متقلبة المطالب، مما دفع العديد من دول المنطقة إلى تبني سياسات توازن بين واشنطن وبكين. ويكشف هذا الواقع عن حدود القيادة الأمريكية في مواجهة الصين، ويُبرز عجزها عن تقديم بديلٍ مستدام في ظل أفول هيمنتها.
نصف الكرة الغربي: العودة إلى المسرح التاريخي
في عقيدة ترامب، يُعاد تعريف نصف الكرة الغربي باعتباره الميدان الرئيس للعودة إلى الذات، ومسرحاً لإحياء هيمنة إقليمية آخذة في الانكماش، بعد أن باتت الولايات المتحدة عاجزةً عن حمل راية النظام العالمي الذي كانت تقوده يوماً. لقد صُوّرت أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، في إطار هذه العقيدة، كساحةٍ لمجابهة النفوذ الصيني والروسي، في محاولة لإعادة إنتاج نسخة مشددة من عقيدة مونرو، حيث يُعدّ أي تدخل لقوى خارجية في شؤون هذا النصف من العالم، تهديداً مباشراً للأمن القومي الأمريكي. بيد أنّ هذا “المونرو الجديد” لا يستند إلى قوةٍ طامحةٍ للصعود كما في القرن التاسع عشر، بل إلى قوةٍ منهكةٍ تتراجع، ومجتمعٍ يمزّقه الاستقطاب، ونموذجٍ فقد جاذبيته التي كانت تُلهب خيال العالم.
أما على أرض الواقع، فقد تمحورت سياسات ترامب حول إحكام الخناق على فنزويلا، والعودة إلى سياسة المواجهة مع كوبا، وتحويل ملف الهجرة إلى قضية أمنية، مع السعي لكبح النفوذ الاقتصادي للصين. غير أن العقوبات التي فُرضت على فنزويلا لم تُسفر عن تغيير النظام، بل عمّقت الأزمة الإنسانية. بينما دفعت سياسة الضغط على كوبا بها إلى أحضان خصوم واشنطن. وأما السياسات المتشددة تجاه الهجرة، فقد أخفقت في معالجة جذور الأزمة، بل زادت من انعدام الثقة بين الولايات المتحدة ودول المنطقة، حكوماتٍ وشعوباً.
وفيما كانت الصين تستثمر في مشاريع البنية التحتية، مقدمةً نفسها شريكاً واقعياً وموثوقاً، كانت الولايات المتحدة تخاطب المنطقة بلغة العقوبات والتهديدات، دون أن تقدم بديلاً تنموياً أو رؤية اقتصادية متوازنة. وهكذا، لم يكن “المونرو الجديد” عودةً مظفرةً إلى الهيمنة على “الفناء الخلفي”، بل كان أشبه بمحاولة دفاعية يائسة للحفاظ على ما تبقى من نفوذ إقليمي، في ظل أفول إمبراطوريةٍ عالمية.
نقد فعالية عقيدة ترامب في مواجهة الأفول الهيمني
إن اعتبرنا عقيدة ترامب، وما حملته من تركيز على نصف الكرة الغربي، قراءةً مستحدثةً لعقيدة مونرو، واستجابةً للأفول الهيمني الأمريكي أمام صعود قوى دولية ناشئة، فإن مكمن ضعفها الجوهري يتجلى في الهوة السحيقة بين شعار “إعادة العظمة لأمريكا” والوسائل المحدودة التي جرى توظيفها لتحقيق هذا الهدف.
لقد أدرك ترامب، على نحوٍ صائب، أن الولايات المتحدة لم تعد قادرةً على الحفاظ على هيمنتها عبر الإنفاق العسكري الضخم والالتزامات المترامية الأطراف، إلا أن الحلول التي اقترحها اقتصرت على انكماشٍ جيوسياسي، وتركيزٍ على “الفناء الخلفي”، واعتمادٍ مفرط على العقوبات الاقتصادية، إلى جانب مقاربة تعاملية ضيقة مع الحلفاء. لكن هذه الاستراتيجية بدت أقرب إلى سياسةٍ دفاعية قصيرة النظر، لا مشروعاً شاملاً لإعادة بناء الهيمنة. وعلى النقيض من عقيدة مونرو الأصلية التي كانت تعبيراً عن صعود قوةٍ فتيةٍ طموحة، جاءت عقيدة ترامب رمزاً لتراجع قوةٍ أنهكتها الحروب والصراعات، تحاول جاهدةً الحفاظ على الحد الأدنى من نفوذها الإقليمي.
على الصعيد الداخلي، أسهمت سياسات ترامب في تعميق الانقسامات السياسية، وتأجيج التوترات العرقية، وتآكل الثقة بالمؤسسات الديمقراطية. وقد رسمت هذه السياسات في أذهان الحلفاء صورة دولةٍ تعيش أزمة شرعية داخلية، تفتقر إلى التماسك الضروري للقيادة العالمية. فالهيمنة لا يمكن أن تستمر في غياب انسجام داخلي وشرعية ديمقراطية راسخة.
أما على الصعيد الخارجي، فقد أضعفت العقيدة التحالفات الدولية التي كانت تمثّل ركيزةً أساسيةً للهيمنة الأمريكية. فاختزال الأمن الجماعي إلى معادلة مادية بحتة، كما حدث مع حلف الناتو، قوّض أسس هذا التحالف، وأضعف قدرة الولايات المتحدة على قيادة العالم. وفي عالمٍ متعدد الأقطاب، تعدّ شبكة التحالفات والنظم المؤسسية ميزةً استراتيجيةً للولايات المتحدة، لكن عقيدة ترامب، التي اعتمدت على تفكيك هذه الشبكات، لم تفعل سوى تسريع وتيرة التراجع الأمريكي، وتحويله إلى ما يشبه “الانتحار الهيمني”.
وفي الوقت الذي كانت فيه الصين تُعزز نفوذها عبر مبادراتها التنموية ومشاريعها متعددة الأطراف، قدمت الولايات المتحدة في عهد ترامب نموذجاً مضطرباً لقوةٍ متقلبة، تتراجع عن الاتفاقيات الدولية، وتخاطب حلفاءها بنفس لغة التهديد التي توجهها لخصومها. وقد اتسمت سياسات ترامب تجاه الصين بالتركيز على الحرب التجارية وفرض الرسوم الجمركية، دون تقديم رؤية استراتيجية شاملة للحد من صعودها. كما أن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، أضاع فرصةً ثمينةً لتشكيل تحالف تجاري مضاد للصين، وترك المجال مفتوحاً أمام مبادرات صينية كـ"الحزام والطريق".
إن عقيدة ترامب، بدلاً من أن تكون حلاً لتحديات الأفول الأمريكي، جاءت لتؤكد هذا التراجع، وتعلن رسمياً دخول الولايات المتحدة عصر “ما بعد الهيمنة”. ففي هذا العصر، تظل الولايات المتحدة قوةً كبيرةً ومؤثرةً، لكنها تفقد قدرتها على صياغة قواعد النظام العالمي بمفردها. وإذا ما نظرنا إلى الأفول من منظورٍ بنيوي، فإنه يتطلب ثلاث ركائز لمواجهته: أولاً، استعادة التماسك الداخلي. ثانياً، إعادة بناء التحالفات الدولية. ثالثاً، تقديم رؤية جاذبة للنظام العالمي. لكن عقيدة ترامب أخفقت في تحقيق أيٍ من هذه الركائز.
فعلى الصعيد الداخلي، عمّقت السياسات الانقسامات وأزمة الشرعية. وعلى الصعيد الخارجي، أضعفت التحالفات والمؤسسات الدولية، وحولت الولايات المتحدة إلى قوةٍ غير موثوقة، تُخيف حلفاءها بقدر ما تخيف خصومها. وفي مواجهة الصين، التي قدمت نفسها للعالم كقوة صاعدة عبر دبلوماسية البنية التحتية والمبادرات التنموية، بدت الولايات المتحدة قوةً متقلبةً، تفتقر إلى الاتساق والرؤية.
لقد جاءت عقيدة ترامب، لا كعائقٍ أمام الأفول الأمريكي، بل كقوةٍ مسرّعة له. فمن خلال تعميق الانقسامات الداخلية، وإضعاف التحالفات الخارجية، استنزفت العقيدة الأدوات التي كان يمكن أن تُبطئ مسار التراجع. ولم يكن “المونرو الجديد” إلا تعبيراً عن مرحلة التحول من الهيمنة المطلقة إلى وضعية “القوة الكبرى غير المهيمنة”، حيث تظل الولايات المتحدة قوةً مؤثرةً، لكنها تفقد مركزيتها كقطبٍ أوحد للنظام العالمي.
