الوقت- تعيش الكويت في الأيام الأخيرة على وقع تحولات سياسية حادة ودراماتيكية، ظهرت فجأة بعد ما وُصف بـ “معلومة أمريكية" أعقبها تدخّل سعودي–إماراتي مباشر، وسط تقارير عن “غضبة أميرية” شملت قطاعات الدولة، أبرزها شبكات العمل الخيري، فيما يشبه المسار الذي اتبعته الأردن سابقاً بفرض حظر شامل على مراكز دينية وجمعيات اجتماعية محسوبة على تيارات إسلامية، فهل تتجه الكويت إلى سيناريو أمني شامل يعيد رسم خريطة النفوذ السياسي والاجتماعي في البلاد؟.
الشبكات الخيرية في الكويت: من النشأة إلى الصعود
شبكات العمل الخيري في الكويت ليست وليدة السنوات الأخيرة، بل تعود جذورها إلى فترة ما بعد الاستقلال في الستينيات، حين بدأت الجمعيات الخيرية تنشط في تقديم مساعدات داخلية وخارجية في إطار العمل الإسلامي الاجتماعي، من أبرز هذه الجمعيات: "جمعية الإصلاح الاجتماعي"، المرتبطة فكرياً بتنظيم الإخوان المسلمين، و"جمعية إحياء التراث الإسلامي" ذات التوجه السلفي.
حافظت هذه الجمعيات لعقود على علاقة مرنة مع الدولة، ساهمت خلالها في بناء المساجد، كفالة الأيتام، إرسال المساعدات إلى الدول الإسلامية، بل أحياناً دعم التعليم في الدول الفقيرة، إلا أن هذه العلاقة بدأت تتوتر بعد عام 2011، مع اندلاع ما يُعرف بـ “الربيع العربي"، وتصاعد نفوذ التيارات الإسلامية في المنطقة، ما أدى إلى تحسس الأنظمة الخليجية من التمدد الإخواني.
ما الذي أثار الغضب الأميرِي هذه المرّة؟
حسب مصادر متقاطعة، فإن التحرك الأخير داخل الكويت جاء على خلفية تقارير أمنية تشير إلى وجود تداخلات مالية وتنظيمية غير واضحة بين بعض الجمعيات الخيرية وتنظيمات خارجية، ما أثار مخاوف من استغلال هذه القنوات لأهداف لا تتماشى مع التوجهات الرسمية للدولة، وبينما تحدّثت بعض الأوساط عن تقاطعات مع تحذيرات أمريكية، فإن اللافت هو تزامن ذلك مع ضغوط خليجية، ولا سيما من السعودية والإمارات، اللتين طالبتا بتشديد الرقابة على العمل الخيري الكويتي، رغم أن هذا التدخل فُهم في الكويت على أنه مساس بالسيادة وخصوصية التجربة الكويتية في إدارة الشأن الديني والاجتماعي.
الغضب الأميرِي جاء في إطار مراجعة شاملة لمؤسسات الدولة، ولم يقتصر على الجمعيات الإسلامية، بل امتدّ إلى مسؤولين وموظفين حكوميين يُعتقد أنهم أهملوا الرقابة أو تجاوزوا حدود الصلاحية، ما أدى إلى قرارات إدارية صارمة شملت إحالات للتقاعد وإقالات في وزارة الشؤون والعمل وبعض اللجان الإغاثية.
التدخل السعودي-الإماراتي بين الشكوك والمصالح
تُبدي السعودية والإمارات حساسية مفرطة تجاه أي حضور اجتماعي أو مالي لجماعات الإسلام السياسي، وخاصة الإخوان المسلمين، حتى في الدول ذات السيادة المستقلة مثل الكويت، ورغم الخصوصية السياسية التي تميّز الكويت من خلال برلمان نشط ومجتمع مدني حيّ، فإن الرياض وأبو ظبي سعتا للضغط من أجل تقليص مساحة التحرك أمام الجمعيات ذات الخلفية الأيديولوجية، انطلاقاً من رؤية أمنية ضيّقة ترى في هذه الفضاءات تهديداً ناعماً لمفاهيم "الاستقرار" كما تُعرّفها الأنظمة المركزية، لكن هذا المنطق لم يلقَ ارتياحاً في بعض الأوساط الكويتية، التي رأت أن مثل هذا التدخل يتجاهل السياق السياسي والاجتماعي المحلي، ويخلط بين القضايا الأمنية المشروعة وبين محاولات فرض نموذج سياسي موحّد على الدول الخليجية، على حساب تنوعها السياسي والديني.
ماذا كانت تفعل هذه الجمعيات؟
حسب تقارير إعلامية وتحقيقات منشورة في السابق، فإن بعض الجمعيات قامت بتحويلات مالية كبرى إلى دول مثل سوريا واليمن وفلسطين، بحجة العمل الإغاثي، لكن في ظل ضعف الرقابة في بعض الفترات، ظهرت اتهامات باستخدام هذه الأموال لدعم فصائل إسلامية مقاتلة أو لتنشيط شبكات نفوذ سياسي في الخارج.
في المقابل، يرى مراقبون أن أغلب هذه الجمعيات كانت تقوم بأعمال خيرية حقيقية، وأن تضييق الخناق عليها قد يؤدي إلى فراغ اجتماعي كبير، ويفتح الباب أمام ردّات فعل غير محسوبة.
بين الوقاية والسيطرة: هل تعتمد الكويت النموذج الأردني؟
تشير المؤشرات الحالية إلى أن الكويت تتجه بالفعل نحو سياسة تضييق موسعة، قد تشمل تجميد أرصدة، إغلاق مقرات، إعادة هيكلة شاملة لقطاع العمل الخيري، وربما فرض "الحظر القانوني" الكامل على بعض الجمعيات كما فعلت عمّان عام 2015، حين حلّت جماعة الإخوان المسلمين قانونياً، وأعادت ترخيص جمعيات كانت تابعة لها بشروط جديدة.
ومع أن الخصوصية السياسية في الكويت تختلف عن الأردن، فإن البيئة الإقليمية الضاغطة، وسيناريو "التطهير الإداري" الجاري، يعزز من احتمالات اللجوء إلى هذا الخيار.
أين موقع الوريث أو البديل؟
حتى الآن، لا تتوافر معلومات مؤكدة عن بديل واضح لشبكات العمل الخيري الإسلامية في الكويت، ثمة حديث عن نية الدولة دعم مبادرات "خيرية محايدة" أو إنشاء كيانات جديدة تكون تحت رقابة مشددة، لكن غياب البديل قد يُضعف أدوات الدولة الناعمة، وخاصة في الدول التي كانت تعتمد على الدعم الكويتي التقليدي.
من جهة أخرى، لا توجد إشارات إلى أن هناك "وريثاً سياسياً" واضحاً يمكنه أن يشغل الفراغ الذي قد تتركه هذه الجمعيات داخل الكويت، وخاصة في ظل ضعف الحراك السياسي المدني عموماً.
في النهاية يمكن القول بأن الكويت عند مفترق طرق، حيث تعيش الكويت اليوم لحظة تحول فارقة، المشهد ليس بسيطاً كما قد يبدو من الخارج، فهو لا يتعلق فقط بإغلاق جمعيات، بل بصراع أعمق على هوية الدولة، وطبيعة علاقتها بالمجتمع، وحدود تدخل الخارج في رسم سياساتها الداخلية.
في ظل هذا الواقع، تبدو الكويت وكأنها تمشي على حبل مشدود: بين حماية أمنها القومي وتماسكها الاجتماعي، وبين الحفاظ على استقلاليتها السياسية والدينية، والسؤال الآن: هل ستنجح في تحقيق التوازن، أم إنها ستنجرّ إلى سيناريوهات استقطاب داخلي أعمق مما تُظهره الصورة الحالية؟