الوقت - عقب الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها الإدارة الأمريكية ضد المنابر الإعلامية الروسية بذريعة نشر معلومات كاذبة، نشرت إحدى الصحف الأمريكية مقالاً يسلط الضوء على تاريخ الولايات المتحدة الحافل في نشر المعلومات المضللة، مطالبةً البيت الأبيض بوضع حد لهذه الممارسات المشينة.
ففي تقرير لافت، كشف موقع "Responsible Statecraft" التابع لمعهد "كوينسي" للدراسات - وهو مركز فكر أمريكي - أن الولايات المتحدة قد جعلت من مكافحة المعلومات المضللة في الفضاء السيبراني والمنصات الإعلامية أولويةً قصوى، وخاصةً مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
وقد اتخذت الحكومة الفيدرالية مؤخرًا سلسلةً من الإجراءات الصارمة في هذا الصدد، بما في ذلك مصادرة نطاقات إلكترونية وفرض عقوبات على مواطنين روس.
ووفقًا لما كشفته وكالة "كوينسي"، فقد شهدت هذه القضية الحساسة تصعيدًا دراماتيكيًا عندما أدلى "مارك زوكربيرج"، العقل المدبر وراء شبکة "ميتا" (الكيان الأم لعملاقي التواصل الاجتماعي فيسبوك وإنستغرام)، باعتراف مثير للجدل.
حيث أقر زوكربيرج بأن البيت الأبيض قد مارس ضغوطًا غير مسبوقة على فيسبوك في عام 2021، مطالبًا إياها بفرض رقابة صارمة على مجموعة من المنشورات المتعلقة بجائحة كورونا، بما في ذلك المحتوى الساخر الذي يعدّ جزءًا لا يتجزأ من حرية التعبير.
اليد الطولى لأمريكا في حملات المعلومات المضللة
في مفارقة صارخة، وبينما يصنّف المنتدى الاقتصادي العالمي "المعلومات المضللة" كأخطر تهديد يحدق باستقرار العالم في الفترة 2024-2025، يأتي إقرار مركز الأبحاث الأمريكي ليلقي الضوء على حقيقة تاريخية مذهلة وهي تورط الولايات المتحدة ذاتها في نسج خيوط هذه المعلومات المغلوطة.
ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث في عام 2011، حين أطلقت الولايات المتحدة عملية "الصوت الصادق"، وهي مبادرة عسكرية بالغة التعقيد استخدمت شبكةً من الحسابات الوهمية عبر منصات التواصل الاجتماعي، لبث معلومات مصممة بعناية لخدمة المصالح الاستراتيجية للحكومة الأمريكية.
وكشف المركز الفكري الأمريكي عن معلومات مهمة للغاية، فقد أماط اللثام عن اكتشاف قام به مرصد الإنترنت بجامعة ستانفورد في عام 2022، متمثلاً في شبكة معقدة من الحسابات الشبحية المتمركزة في الولايات المتحدة، والتي شنت حملات استهداف ممنهجة ضد أفراد في روسيا والصين وإيران.
وأورد التقرير: "لقد تورطت بعض هذه الحسابات في نسج روايات صادمة تتحدى الخيال، من بينها مزاعم مروعة حول تورط عناصر إيرانية في الاتجار بأعضاء اللاجئين الأفغان، بيد أن التحقيقات المعمقة اللاحقة كشفت عن حقيقة مذهلة، وهي وجود صلات وثيقة تربط بعض هذه الحسابات بأروقة البنتاغون".
وفي تطور دراماتيكي آخر، کشفت وثائق مسربة من أعلى مستويات قيادة العمليات الخاصة الأمريكية، عن مساعٍ حثيثة قامت بها هذه المؤسسة العسكرية في عام 2022، فقد سعت للحصول على أدوات فائقة التطور في مجال "الخداع الرقمي" و"حملات التضليل المعلوماتي"، مع إصرار لافت على الوصول إلى تقنيات مثل "الزيف العميق"(Deepfake).
واختُتم التقرير بكشف مثير للدهشة: "شهد الشهر المنصرم ظهوراً لرسائل مؤيدة للولايات المتحدة، تم بثها بمهارة فائقة عبر إعلانات تطبيق المواعدة الشهير "تيندر" في لبنان، وقد تبين لاحقاً أن هذه الرسائل تحمل بصمات واضحة للمؤسسة العسكرية الأمريكية".
الکذب والافتراء، سهم مسموم يرتدّ على الأمريكيين
کما أعرب مرکز الفكر الأمريكي عن بالغ قلقه إزاء انعكاسات المخططات العسكرية على النسيج الداخلي للدول، مستشهدًا بحملة أمريكية مستترة استهدفت تقويض اللقاحات الصينية في الفلبين، ما أفضى إلى تبلور حركة مناهضة للتطعيم والكمامات ووسائل الكشف الصينية.
ووفقًا لما أوردته مؤسسة كوينسي، تدرك الولايات المتحدة - ولو جزئيًا - هذه المخاطر الداخلية، وقد صاغت تشريعات لصد هذه الدعاية الموجّهة عن أعين الشعب الأمريكي، بيد أن هذه القوانين قد عفا عليها الدهر وأضحت عتيقةً.
فعلى سبيل التمثيل، يُحظر على وزارة الخارجية الأمريكية بث دعاية موجهة ضد أبناء الوطن، في حين أن وزارة الدفاع تتمتع بحصانة من هذه القيود؛ مع العلم أن الشطر الأعظم من حملات التضليل الإعلامي يتم تنظيمه في أروقة البنتاغون.
لقد بذلت الولايات المتحدة، على مدار السنوات المنصرمة، جهودًا مضنيةً في سبيل تنفيذ حملات معلوماتية ضد منافسيها وخصومها، غير أن غالبية هذه المساعي قد تكللت بالإخفاق، إذ تصطدم محاولات التأثير الخارجي، في أغلب الأحيان، بحواجز ثقافية.
ولعل أبرز مثال على ذلك، ما شهدناه في إحدى المحاولات الأمريكية للتغلغل خارجيًا، حيث تمت ترجمة المحتوى المستهدف ترجمةً حرفيةً من الإنجليزية إلى اللغة المقصودة، مع استخدام وسوم شائعة في الولايات المتحدة بدلًا من نظيراتها المحلية، ما أفقد الحملة جوهر مصداقيتها وفاعليتها.
وفي هذا المضمار، أطلق مركز الفكر الأمريكي صيحة تحذير مدوية لواشنطن، مفادها بأن المخاطر الكامنة في الحملات المعلوماتية تفوق عوائدها بأشواط. وأشار المركز إلى أنه في خضم عصر الاتصالات الراهن، لم يعد في مقدور الولايات المتحدة أن تنتهج سياسةً خارجيةً منبتة الصلة عن نظيرتها الداخلية، الأمر الذي يستلزم إعادة صياغة جذرية لاستراتيجياتها المعلوماتية.