الوقت- لا تزال جرائم النظام الصهيوني في غزة تتصدر عناوين معظم الصحف ووسائل الإعلام في العالم، كما غطت الصحف في أنقرة هذه القضية بشكل مستمر في الأسابيع الثلاثة الماضية، ومن أجل إدانة الأعمال الوحشية للصهاينة، من المقرر عقد تجمع ضخم للملايين في إسطنبول وهذا التجمع وأهدافه ودوافعه واجه العديد من التحديات والشكوك.
وعلى الرغم من أن شريحة واسعة من الشعب والنخب التركية اتخذت مواقف قوية ضد النظام الصهيوني، إلا أن الحكومة تتصرف وفق حسابات واعتبارات كثيرة.
ولقد أثار القرار الجديد الذي اتخذه رجب طيب أردوغان بعقد اجتماع لملايين الأتراك في إسطنبول لإدانة "إسرائيل"، الكثير من الجدل، لأن مؤتمر الشارع الكبير هذا له سمتان مهمتان:
1- إن دعوة الحفل وتنفيذه منوطة بفرع حزب العدالة والتنمية في إسطنبول، ومبدأ الحفل له جذور حزبية وتنظيمية كاملة، ومناصرون ولن تنضم إليه الأحزاب الأخرى .
2- سيقام هذا الحفل قبل يوم واحد بالضبط من الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية.
ولهذا السبب، أثار تزامن الحفل اهتمام النقاد، وأعلنوا أن الهدف الرئيسي لأردوغان وحلفائه في حزب العدالة والتنمية ليس مساعدة غزة، بل الإلقاء بظلالها على إحياء ذكرى الشهداء، ذكرى الجمهورية وتهميش الكماليين وأنصار مصطفى كمال أتاتورك.
ووصلت الانتقادات الموجهة إلى التخطيط لاجتماع القدس في إسطنبول إلى درجة أن رئيس تحرير صحيفة حرييت أحمد حقان، الذي يُنظر إليه دائمًا على أنه الظل الذي يقف إلى جانب أردوغان، كتب في هذا الصدد: "بالفعل، تم اعتبار حزب العدالة والتنمية بمثابة حزب سياسي، عدو للجمهورية، وبهذا التوقيت، تم إعطاء النقاد الذريعة لمهاجمة الحزب مرة أخرى، أتمنى أن تعقدوا اجتماع القدس في يوم آخر".
وقد تحدى العديد من المحللين الأتراك البارزين نهج أردوغان العملي تجاه غزة و"إسرائيل" في مقالاتهم وأعمدتهم، والتي نراجع بعضها.
ويقول أحد الصحفيين، لا بدّ من اتخاذ مبادرات دولية كبرى لوقف الهجوم الإسرائيلي على غزة وعملياتها البرية، ومبادرة أنقرة مهمة في هذا الصدد، وكان كلام هاكان فيدان عن استعداد تركيا للعب دور كضامن للسلام ذكياً، لكن الحقيقة هي أن خطوات أردوغان التالية كانت خاطئة وفقد فرصته تمامًا في المساعدة في حل المشكلة.
ويقول آخر، إن تصريح أردوغان بأننا لا نرى حماس منظمة إرهابية وأنها منظمة مجاهدة جعل مبادرة أنقرة غير فعالة فجأة. وفي الوقت نفسه، فإن أنقرة أقوى من أوروبا وحلف شمال الأطلسي في ما يتعلق بإرساء السلام وإجبار "إسرائيل" على الانسحاب، ويمكنه أيضًا استخدام القرار النهائي لإحالة انضمام السويد إلى الناتو إلى البرلمان كوسيلة ضغط، ولم يكن من الضروري لأردوغان أن يتحدث بهذه الصراحة عن طبيعة حماس. لكن كلام أردوغان عن حماس ليس لأنه يريد التنازل لحماس وتقديم معروف لها.
وعلى سياق متصل يقول صحفي آخر، إن أردوغان لديه هدف انتخابي هنا! وهو يدافع عن حماس للفوز بأصوات المحافظين الأتراك، ويعلم أردوغان جيدًا أن حماس تحظى بشعبية لدى العديد من مواطنينا، ولهذا السبب، يستخدم هذه الكلمات كأداة حزبية وانتخابية، وإن اجتماع القدس والإعلان عن دعم حماس ليس له سوى غرض واحد، وهو استقطاب أصوات المواطنين في الانتخابات البلدية المقبلة في تركيا.
ويقول آخر، إن "دولت باغيلي"، زعيم حزب الحركة الوطنية وشريك أردوغان في الائتلاف الرئاسي، حذر "إسرائيل" وقال إذا لم توقفوا جرائمكم خلال 24 ساعة فسنتحرك!، لقد مرت الآن عدة 24 ساعة منذ تلك التحذيرات ولم يفعل هو وأردوغان أي شيء خاص.
والقضية المثيرة للاهتمام في مقاربة "باغيلي" تجاه غزة هي أنه بدلاً من الدفاع عن الشعب الفلسطيني المضطهد، تحدث عن البقاء الوطني لتركيا وادعى أن حصار غزة سيؤدي تدريجياً إلى حصار تركيا وسيتعرض بقاؤنا وأمننا القومي للخطر!، هذه الكلمات تظهر أنهم لا يريدون القيام بأي إجراء محدد ويبحثون فقط عن الدعاية الحزبية.
ويقول أحد الصحفيين أيضا، في الذكرى المئوية للجمهورية، نشهد تصرفات خاطئة وغير عقلانية، تخيل كم هو غريب ومفيد هذا السلوك: الحزب الحاكم ينظم مظاهرة ضخمة لدعم فلسطين في اسطنبول في 28 أكتوبر، لماذا؟ حتى يتمكن من استخدام هذا العذر ليطغى على احتفالات 29 أكتوبر بالجمهورية، ولو كانوا يتطلعون حقاً إلى دعم أهل غزة، لما وجدوا يوماً آخر في التقويم، أو كان هدفهم سحق وتدمير الحماس في ذكرى تأسيس الجمهورية!، وهم يعلمون جيداً أنه في هذا اليوم، وخاصة أنه الذكرى المئوية، سيذهب الملايين من الناس إلى أنقرة لزيارة قبر أتاتورك، ونتيجة لذلك، يستخدمون جميع المرافق الحكومية والحزبية ويجمعون أنصارهم في إسطنبول باستخدام آلاف الحافلات ومئات الآلاف من الوجبات، وهم يتظاهرون بأن هذا التجمع الكبير هو بسبب غزة، لكن دافعهم هو الدعاية الحزبية والتظليل على أحداث مؤيدي الجمهورية.
على المستوى الإعلامي، انتقد باريش ترك أوغلو، في «جمهورييات»، موقف «العدالة والتنمية»، وكيف «باع» قضيّة غزة، مشيراً إلى أن قضية سفينة مرمرة مثال على ذلك، حيث انتهت القصّة باعتذار "إسرائيل"، ودفْعها 20 مليون دولار... هكذا انتهت الحكاية: ينامون مع فلسطين ويستيقظون مع "إسرائيل". وأضاف ترك أوغلو إنه "إذا نظرنا إلى الحرب الأخيرة، فلن يبقى شيء على ما كان عليه، الصواريخ أكثر واقعية من اللعنات، والضحايا المدنيون يستمرّون في السقوط".
أمّا السفير التركي السابق لدى "إسرائيل"، أوغوز تشيليك كول، فرأى، في مقالة في الصحيفة نفسها، أنه يجب وقْف الفصل بين حماس وبين فلسطين، والنظر إليهما كواحد، فـ"إسرائيل" تعترف بالسلطة الفلسطينية في رام الله، ولكنها ترى في حماس منظّمة إرهابية.
المفاوضات لإقامة دولة فلسطينية متوقّفة منذ وقت طويل، ويجب أن تُستأنف فوراً، مستدركاً بأن دور تركيا الوسيط يمرّ بعلاقات جيّدة مع الأطراف جميعها، بما فيها مصر، ويجب أن تستمرّ علاقات تركيا الجيدة مع الأطراف كلّها من حماس والسلطة الفلسطينية إلى "إسرائيل" ومصر.
وفي الاتجاه نفسه، رأى عبد الله مراد أوغلو، في صحيفة «يني شفق» الموالية، أن الخنجر الذي اسمه "إسرائيل" لم تغرزه في المنطقة سوى الولايات المتحدة وبريطانيا، وما حلّ الدولتَين الذي تقول به أمريكا سوى خديعة، "إسرائيل" لا تريد إلّا حلّ الدولة الواحدة وتطهير فلسطين من الفلسطينيين، ومسؤولة المفوضيّة الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، وصفت الهجمات الروسية في أوكرانيا بأنها جريمة حرب، فيما ترفع هي والغرب كلّه القبعات لـ"إسرائيل" في تدمير غزة، مذكّراً بأن الأوروبيين دخلوا أمريكا الشمالية ووصفوا سكّانها الأصليين بالمتخلّفين.
والآن، يصف الإسرائيليون سكان غزة بالحيوانات البشرية وخلفهم يقف "الغرب المتحضّر" الذي أرسل أكبر حاملة طائرات لتسهيل إبادة "الحيوانات البشرية".
وفي الصحيفة نفسها، تحدّث الكاتب الإسلامي، يوسف قبلان، عن "حتميّة كسر الحصار اليهودي – الإنكليزي"، وعن أن "إسرائيل" تقيّأت على مدى 75 عاماً دماء المسلمين في فلسطين وسوريا ولبنان... والفلسطينيون بحركة مقاومتهم منذ 75 عاماً، يحرّرون ماهية الإنسانية بتصدّيهم للهجمات الموغلة في التوحش لدولة الإرهاب "إسرائيل"، وإن ما تقوم به "إسرائيل" هو الإبادة الكبرى.
وفي «غازيتيه دوار»، رأى فهيم طاشتكين أن هدف "إسرائيل" كان دائماً نفي الفلسطينيين إلى سيناء، فيما كانت دائماً تدمّر البيوت وتأتي قطر لتبنيها من جديد، فلا تُعاقَب "إسرائيل" ولا تدفع قرشاً من جيبها، معتبراً أن "إسرائيل" والغرب، بمساواتهما بين حماس و"داعش"، إنّما يريدان محو السياق التاريخي للمسألة الفلسطينية؛ إذ تريد "إسرائيل" «نكبة ثانية» للفلسطينيين الذين وصفتهم بـ«الحيوانات البشرية»، فيما يقول الرئيس الإسرائيلي إنه ليس هناك من مدنيين في غزة، واضعاً بذلك «إطاراً للتطهير العرقي». ويرى فهمي قورو، بدوره، أن "إسرائيل" تفقد مع كلّ يوم صورتها و"حقّها" في الانتقام، مع كل الهمجيّة التي ترتكبها في غزة، ومع اتّساع ردود الفعل العالمية ضدّها، وهذا ربّما يكون من أسباب عدم مباشرتها بالهجوم البري... بعض التقارير تشير إلى أنه بعد عملية "السيوف الحديدية"، ازداد مَن يدعون إلى الانتقام من "إسرائيل" والصهاينة واليهود، فـ"إسرائيل" بين خيارَين: التمهّل، أو استغلال الفرصة والإجهاز على غزة.
وفي النهاية لا بد من القول إن سياسة الاستقطاب في المجتمع التركي، التي يمارسها حزب العدالة والتنمية، دمرت الثقة، وكل مواقف وتصرفات الحزب المذكور ينظر إليها المنتقدون والمعارضون على أنها أهداف هدفها النهائي هو بقاء الحزب، ومن المؤسف أن حتى قضية فلسطين تدخل في هذه القاعدة.