الوقت - النقطة المشتركة التي يمكن ملاحظتها في جميع التحليلات المتعلقة بالتطورات الأخيرة في فلسطين في وسائل الإعلام ومراكز الدراسات الإقليمية والدولية، هي أنه على عكس الماضي، عندما كانت غزة فقط رمزًا للمقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، أصبحت الضفة الغربية اليوم منصةً جديدةً لمحاربة الاحتلال، وفرضت معادلات غير مسبوقة على الكيان الصهيوني.
التغيير في معادلات الصراع بين الجيش الإسرائيلي والضفة الغربية، هو أمر تعترف به الأوساط ووسائل الإعلام العبرية، وتحذر من بداية انتفاضة فلسطينية مسلحة جديدة من الضفة الغربية، انتفاضةٌ يمكن أن تؤدي إلى تدمير "إسرائيل".
لماذا فشل الکيان الإسرائيلي في احتواء الفلسطينيين؟
مؤسسة كارنيغي الأمريكية، وهي أحد المراكز الرئيسية للدراسات الدولية والاستراتيجية للبيت الأبيض، في مقال بعنوان "سلام دون منظور سياسي .. لماذا فشلت إسرائيل في السيطرة على الفلسطينيين؟"، تطرقت إلى التطورات الأخيرة في فلسطين والصراع بين الجيش الإسرائيلي والفلسطينيين في الضفة الغربية.
وكتبت المؤسسة أن عدد العمليات الفلسطينية ضد الإسرائيليين وجنود الجيش الإسرائيلي قد زاد بشكل كبير في الضفة الغربية وأراضي 1948، وهذا الاتجاه يظهر فشل أسلوب "إسرائيل" في الهيمنة على الفلسطينيين، وهو أسلوب اعتمد في السابق على أداتين بشكل أساسي:
- محاولة تعزيز السلام مع الفلسطينيين من خلال الحوافز الاقتصادية،
- الرهان علی التنسيق الأمني مع منظمة السلطة الفلسطينية للسيطرة على الفلسطينيين.
فشل الحسابات الاقتصادية للکيان الصهيوني في السيطرة على الفلسطينيين
كتب "شيمون بيريز"، رئيس الكيان الصهيوني الأسبق، في كتابه بعنوان "الشرق الأوسط الجديد" حول آلية التشبيك الاقتصادي لهذا الکيان مع دول المنطقة، إن "إسرائيل تستطيع دفع أهدافها وتسهيل عملية التطبيع مع الدول العربية في المنطقة بمساعدة الاقتصاد".
طبعاً، لم تكن فرضية شيمون بيريز هذه مقصورةً على دول المنطقة فقط، بل بعد نهاية حرب حزيران 1967، عمل الصهاينة أيضًا على آلية خداع الفلسطينيين من خلال الاقتصاد. وفي هذا السياق، أصدر القادة الصهاينة تراخيص لشركات فلسطينية متخصصة في صناعة النسيج والأحذية عام 1995.
اعتقدت السلطات الصهيونية في ذلك الوقت، أن زيادة الدخل الاقتصادي للفلسطينيين تعني الحد من دافعهم للقيام بعمليات مناهضة للکيان الإسرائيلي. وفي الواقع، حاول الصهاينة استخدام أداة الاقتصاد للاستثمار السياسي والأمني تجاه الفلسطينيين، وتحطيم روح النضال والمقاومة وجعل هذا الشعب تابعًا لـ"إسرائيل"، من خلال فتح الأبواب الاقتصادية أمام الشعب الفلسطيني.
وتجدر الإشارة إلى أن الاحتلال استخدم الاقتصاد كأداة لتشجيع الفلسطينيين وتهديدهم ومعاقبتهم. وتعرض الفلسطينيون غير المستعدين لقبول سياسات الكيان الصهيوني لعقوبات اقتصادية شديدة، حيث إن قطاع غزة يخضع لحصار خانق وشامل منذ سنوات.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف، حاول الصهاينة أولاً فصل المجموعات الفلسطينية المختلفة عن بعضها البعض، والتلميح للشعب الفلسطيني أن الضفة الغربية أو أراضي عام 1948 ومناطق فلسطينية أخرى منفصلة عن قطاع غزة، ويجب ألا يتبعوا نهج مقاومة غزة.
منذ العقود الماضية، كانت قيادة رام الله أهم أداة في يد الاحتلال للسيطرة على الضفة الغربية، ومنظمة السلطة الفلسطينية، التي رغم مزاعمها تواصل التنسيق الأمني مع الاحتلال، كانت اليد اليمنى للکيان الصهيوني للسيطرة على الفلسطينيين في الضفة الغربية.
الضفة الغربية، مهد الانتفاضة الفلسطينية الثالثة
لكن رغم ذلك، بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 2000، شعر الصهاينة دائمًا بخطر كبير من الضفة الغربية. وعلى مدى العقد الماضي، كانت الضفة الغربية ركيزةً أساسيةً للعمليات المناهضة للصهيونية، وهذه العملية تمت متابعتها بكثافة غير مسبوقة بعد معركة "السيف المقدس" في مايو 2021؛ حربٌ توحد فيها جميع الفلسطينيين لأول مرة ضد الکيان الإسرائيلي.
اليوم سلطات الاحتلال مصدومة من توسع روح المقاومة في الضفة الغربية، وظهور مجموعات مقاومة شابة مثل كتائب جنين ونابلس وعرين الأسود، وازدياد العمليات الاستشهادية من قبل الشباب الفلسطينيين ضد جنود الصهاينة والمستوطنين.
يدرك الإسرائيليون الآن أن الاعتماد على الأدوات الاقتصادية لترهيب الفلسطينيين أو جذبهم كان خطأً، وبعبارة أخرى، توصل جيل فلسطين الجديد، رمز المقاومة الحقيقية لهذه الأرض ضد الاحتلال، إلى استنتاج مفاده بأن الخدمات الاقتصادية الضئيلة التي قدمها الکيان الصهيوني في العقود الماضية لإسكات الفلسطينيين، ليست في الواقع سوى جزء صغير من ثروة هؤلاء الناس التي نهبها الصهاينة.
كما يرى الجيل الجديد في فلسطين بأم عينه كيف يواصل الاحتلال مصادرة الأراضي وتدمير منازل الفلسطينيين وطردهم، ويمنع الشعب الفلسطيني من الوصول إلى موارد المياه والغاز والموارد الأخرى، ويقوم باستثمارات اقتصادية ضخمة باستخدام الموارد الطبيعية لفلسطين.
نحن الآن نتحدث عن "وحدة النظرة الفلسطينية لخداع إسرائيل"، حيث أدرك جميع الفلسطينيين الدافع والهدف الرئيسي للاحتلال لتقديم خدمات اقتصادية تافهة للشعب الفلسطيني.
في الواقع، عندما اعتمدت مراكز الدراسة والدوائر السياسية والمنظرون الصهاينة على الاقتصاد كأداة لتحقيق أهدافهم السياسية والأمنية ضد الفلسطينيين، لم يلتفتوا إلى عوامل مهمة مثل الدين والقومية لدى الشعب الفلسطيني، ما قد يؤدي إلى اندلاع الانتفاضة الثالثة.
كيف تسببت الضفة الغربية المسلحة في موت اتفاقيات أوسلو؟
إضافةً إلى ذلك، فإن كل ما نراه في مشهد اليوم في فلسطين، يعني الفشل الكامل للاتفاق الغادر بين منظمات السلطة الفلسطينية والکيان الصهيوني تحت مسمى اتفاقيات "أوسلو"، وهي الاتفاقات التي لم يلتزم بها الاحتلال الإسرائيلي، ولن يعترف بها الجيل الفلسطيني الجديد.
السلطات الفلسطينية التي أبرمت مثل هذه الاتفاقيات، اعتبرتها خطوةً على طريق إقامة دولة فلسطينية مستقلة، فيما كان هدف الکيان الإسرائيلي وداعميه الغربيين والأمريكيين التقسيم الكامل لفلسطين، وتسهيل عملية تطبيع تل أبيب مع الدول العربية.
ولكن الآن، بعد مرور ثلاثة عقود على اتفاقية أوسلو الكارثية، توصل جميع الفلسطينيين وحتى السلطة الفلسطينية، التي لا تزال تتطلع إلى ذلك، إلى استنتاج مفاده أنه لا يوجد حل "الدولتين" في الأساس، والهدف الرئيسي للکيان الصهيوني هو احتلال فلسطين بالكامل وطرد أهل هذه الأرض من هناك. والسياسات المتطرفة التي اتخذتها حكومة بنيامين نتنياهو الفاشية تجاه الفلسطينيين، تؤكد ذلك.
من ناحية أخرى، فإن منظمة السلطة الفلسطينية، التي كانت ذات يوم الممثل الرئيسي للفلسطينيين، لا مكان لها الآن بينهم، وبعد تعزيز التنسيق الأمني مع الاحتلال والتجسس على الفلسطينيين فقدت شعبيتها بشكل كبير بين الناس، لدرجة أن كثيرين يعتقدون أنه في المرحلة المقبلة وبعد وفاة محمود عباس رئيس هذه المنظمة، ستصبح المقاومة هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني.
وفي هذا السياق، تظهر نتائج استطلاع مركز البحوث والدراسات الفلسطيني في حزيران 2023، أن ربع الفلسطينيين يعتقدون أن أفضل ما حدث بعد النكبة للقضية الفلسطينية، هو دخول حماس والجهاد الإسلامي في خط النضال ضد الكيان الصهيوني، ويشدد معظمهم على عدم وجود حل الدولتين أو الدولة الواحدة في فلسطين، والطريقة الوحيدة للتعامل مع الاحتلال هي المقاومة المسلحة.
ووفقًا لهذا الاستطلاع، فإن ثلثي الشعب الفلسطيني لا يخافون من تكرار أحداث النكبة، و66٪ يعتقدون أن الکيان الإسرائيلي لن يستمر مئة عام. كذلك، يؤيد 71٪ من الفلسطينيين ظهور مجموعات مقاومة شابة في الضفة الغربية، ويتوقع 51٪ أن الانتفاضة الثالثة ستبدأ قريبًا.
مقابل هذا الواقع المعقد في الضفة الغربية، تعتقد مراكز الدراسات الإستراتيجية للکيان الصهيوني، أن هناك 3 حلول للتعامل مع مثل هذا الوضع، وهي بالطبع بين السيء والأسوأ. وأحد هذه الحلول هو أن تعيد "إسرائيل" بناء السلطة الفلسطينية وفق سياساتها.
والحل الثاني هو قطع التنسيق بين الفلسطينيين في الضفة الغربية، وخاصةً بين فصائل المقاومة ومنها كتائب شهداء الأقصى وسرايا القدس وكتائب عز الدين القسام والجبهة الشعبية الفلسطينية، وإلخ. والحل الثالث هو إعلان الأحكام العرفية في الضفة الغربية.
لكن الحقيقة التي يعترف بها الصهاينة أنفسهم، هي أن أياً من هذه الحلول لا يعمل ضد "الضفة الغربية المسلحة"، وخاصةً أنه بالتزامن مع التطورات في الضفة الغربية، يواجه الکيان الصهيوني أيضًا أزمةً سياسيةً معقدةً على جبهته الداخلية. وإضافة إلى ذلك، عليه أن يتعامل مع التحديات الأمنية الخارجية على جميع الجبهات.