الوقت - كان للانتخابات النيابية الأخيرة في لبنان، التي جرت في 14 أبريل 2022، سمتان رئيسيتان ظهرتا في الدور التدخلي للسعودية: الأولی، انخفاض أصوات سعد الحريري زعيم تيار المستقبل، والثانية زيادة أصوات سمير جعجع، قائد القوات اللبنانية، الذي يعتبر أحد مرتكبي مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين.
في هذه الانتخابات، خسر التيار الوطني الحر بقيادة جبران باسيل، صهر ميشال عون، حليف حزب الله، 11 مقعدًا وفاز بـ 18 مقعدًا. لكن في المقابل، حصل حزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع الخصم القوي لحزب الله علی 21 مقعداً بعد الفوز بـ 6 مقاعد جديدة.
قبل الانتخابات بعدة أشهر، انخرط وليد البخاري، سفير السعودية في لبنان، في دعاية واسعة النطاق لصالح سمير جعجع، وخلال اتصاله ولقائه بأبناء العشائر العربية، طلب منهم دعم مرشحي حزب "القوات اللبنانية" برئاسة سمير جعجع. وأكد أن سمير جعجع هو الحليف الأول للسعودية في لبنان، وأن الرياض ستدعمه في الانتخابات النيابية لهذا البلد.
وشكّل عدم مشاركة سعد الحريري كقائد لتيار المستقبل في الانتخابات النيابية الماضية، سمةً بارزةً أخرى في الانتخابات. لقد استثمرت السعودية في سعد الحريري لفترة طويلة، لكن بعد أن فشله في تحقيق رغبات ابن سلمان، سقط من عينه.
في البداية، تم احتجاز سعد الحريري وسجنه في الرياض، ثم تم إقصاؤه تدريجياً من المشهد السياسي اللبناني، حيث لم يشارك تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري في الانتخابات النيابية الأخيرة. واستطاع نواب حزب المستقبل، الذين ترشحوا بشکل فردي وغير حزبي، الفوز بسبعة مقاعد فقط، فيما كان لحزب المستقبل 20 نائباً في البرلمان اللبناني السابق.
وحسب صحيفة "رأي اليوم"، منعت الرياض الحريري من الحضور والمشاركة في الانتخابات النيابية، وتسببت في تركه للعملية السياسية اللبنانية. بدورها كتبت صحيفة عكاظ السعودية، التي اعترفت بدور الحكومة التابعة للرياض في عزل سعد الحريري: "يبدو أن الحريري تغير كلياً بعد 17 عاماً، ولم يعد الشاب الذي يمسح دموعه بعد اغتيال والده في شباط 2005. وتعتبر أفعال الحريري عملاً سياسيًا رمزيًا، وهي تدل على اتباعه نهج "تشيع سياسي" عمليًا."
الضغط على نجيب ميقاتي لرفض تشكيل الحكومة قبل انتهاء رئاسة ميشال عون
بعد تعيين نجيب ميقاتي لتشكيل الحكومة في تموز/يوليو، بذل الرئيس السابق ميشال عون والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، إلى جانب حلفائهم السياسيين الآخرين، بمن فيهم رئيس مجلس النواب نبيه بري، قصارى جهدهم لتشکيل الحكومة الجديدة قبل انتهاء رئاسة ميشال عون في 31 اكتوبر 2021، حتى لا تعاني البلاد من فراغ سياسي.
وحسب مصادر مطلعة، نصحت الرياض حلفاءها في لبنان بالإبقاء على الوضع كما هو دون تشكيل حكومة، أو عدم السماح بتشكيل حكومة يشارك فيها ميشال عون وحزب الله. وحسب هذه المصادر، نصحت السعودية حلفاءها بعدم اتخاذ موقف حازم من عدم تشكيل الحكومة اللبنانية، بل عرقلة ذلك بشكل غير مباشر.
وكان التقرير الذي قدمته صحيفة الأخبار اللبنانية قبل أسابيع قليلة من انتهاء رئاسة ميشال عون، حول كواليس التحركات السياسية لمنع ظهور فراغ رئاسي في لبنان، واضحاً تماماً بأن نجيب ميقاتي يتعرض لضغوط شديدة من أجل الهروب من تشكيل الحکومة.
وحسب هذه الصحيفة، فإن "الاتصالات التي تولاها حزب الله في الأيام الأخيرة لتسهيل عملية تشكيل الحكومة أثمرت، في مرحلة أولى، بإقناع الرئيسين ميشال عون ونجيب ميقاتي بالاتفاق على تشكيلة لا تتسبب بمشكلة لأحد. وبعد التشاور مع عون، طُرح على ميقاتي أن يبقي على تشكيلة الحكومة الحالية كما هي، وأن يعرضها على رئيس الجمهورية لتعويمها وإصدار المراسيم الكفيلة بتحويلها الى المجلس النيابي لنيل ثقة غالبية مقبولة."
لكن الأمر غير المتوقع کان أن نجيب ميقاتي في لقاء مع عون وبالتشاور حول هذا الموضوع، طرح موضوعًا آخر وقال إنه يريد تغيير وزير الاقتصاد أمين سلام. وافق ميشال عون على طلب ميقاتي، بشرط أن يرشح الوزير البديل بنفسه، لكن ميقاتي أصر على استشارته قبل الاختيار.
هنا قال ميشال عون لنجيب ميقاتي إنه فور استعداد الحكومة للإعلان الرسمي، فهو مستعد لاقتراح اسم الوزير الذي يريده، ولن يختار لهذا المنصب خيارًا استفزازيًا لأحد. تم الاتفاق على عقد اجتماع للانتهاء من هذا الموضوع، لكن ميقاتي طلب تأجيله حتى نهاية الشهر الجاري أو بداية الشهر المقبل وبعد عودته من بريطانيا(للمشاركة في جنازة الملكة إليزابيث الثانية)، ونيويورك(للمشاركة في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة)، وقد أثار ذلك غضب ميشال عون والوسطاء.
منع تعيين خليفة ميشال عون وخلق فراغ رئاسي
بالتزامن مع المشاورات الداخلية لما تسمى قوى 8 آذار، لم ترغب الدول الأوروبية أيضًا في تفاقم الأزمة السياسية الجديدة في لبنان، بسبب الحرب في أوكرانيا وحاجتها إلى الطاقة من البحر الأبيض المتوسط. لذلك، عملت على منع حدوث فراغ رئاسي في هذا البلد لكن هذه الجهود لم تنجح بسبب عراقيل السعودية.
السفارة السويسرية ومن خلال إقامة مأدبة عشاء، دعت جميع الأحزاب والقوى السياسية اللبنانية لحضور العشاء لإجراء حوار وطني للاتفاق على انتخاب الرئيس المقبل. لكن السفارة السعودية، وبعد أن علمت بهذه المبادرة السويسرية، وجهت على الفور دعوةً لمؤيديها لمقاطعة اجتماع السفارة السويسرية. وتسببت عراقيل السعودية هذه في إلغاء اجتماع السفارة السويسرية، لأن الهدف من عقد هذا الاجتماع کان لقاء وتفاوض جميع الأطراف والقوى اللبنانية مع بعضها البعض.
وحسب موقع إل بي سي اللبناني، "في الاجتماع الذي عقدته اللجنة الفرنسية العربية المشتركة في باريس، حضر عن الجانب الفرنسي "باتريك دوريل" مستشار الرئيس الفرنسي و"برنارد إيمي" رئيس جهاز المخابرات الخارجية الفرنسي و"آن غريو" سفيرة فرنسا في لبنان، و"نزار العلولا" ممثل وكالة المخابرات السعودية و"وليد البخاري سفير السعودية في لبنان، عن الجانب السعودي".
أكدت باريس في الاجتماع علی الاتفاق بين الكتل في مجلس النواب اللبناني على انتخاب الرئيس، وأهمية حماية هذا البلد وتوفير الظروف لإعادته إلى طريق الازدهار من خلال تنفيذ الإصلاحات اللازمة. لكن الجانب السعودي كان له نهج مختلف، حيث نقل العلولا عن السلطات السعودية بأنهم يؤکدون على خصائص رئيس لبنان المستقبلي، وفي هذا الشأن، فإن الأولوية بالنسبة لهم هي الاتفاق على مرشح بالخصائص التي تريدها الرياض.
وفي هذا الاجتماع، قال الفرنسيون للسعوديين، إذا ضمن حزب الله للرياض بأن منصب رئاسة الوزراء سيکون من نصيب شخصية تابعة لها، فهل سيوافقون علی سليمان فرنجية كمرشح معتدل؟ لم يقبل السعوديون هذا الاقتراح ذاكرين تجربة ميشال عون.
وأبلغ الوفد السعودي نظيره الفرنسي أنه إذا تم اختيار مرشح وسط لهذا المنصب، فإن الولايات المتحدة وقطر ومصر تفضل أن يكون قائد الجيش هو المرشح. وخاصةً أن الأحزاب المسيحية وعلى رأسها حزبا القوات اللبنانية والكتائب، وبعض النواب المستقلين، لا يعارضون اختيار جوزيف عون، قائد الجيش اللبناني.
الحفاظ على المحاصصة الطائفية عبر التمسك باتفاق الطائف
لقد مرت أكثر من ثلاثة عقود على اتفاق الطائف، ولم يُقم أي احتفال في السنوات الماضية لإحياء ذکراه.
وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق أنهى الحرب الأهلية في لبنان، وغيَّر التوازن السياسي إلى حد ما لمصلحة المسلمين من خلال نقل جزء من صلاحيات الرئيس إلى رئيس الوزراء، لكنه تعرض دائمًا للنقد لأنه أضفی الشرعية علی المحاصصة الطائفية.
لكن بما أن السعودية لم تنجح في مساعيها السابقة لاستعادة موقعها المفقود في لبنان عبر دعم التحركات المسيحية مثل سمير جعجع، لذلك لجأت مرةً أخرى إلى اتفاق الطائف، وفي الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر، عقدت سفارة السعودية في بيروت اجتماعاً تحت عنوان "مؤتمر اتفاق الطائف" في قصر اليونسكو بلبنان، بمناسبة الذكرى الثالثة والثلاثين لاتفاق الطائف.
لقد دعت السعودية إلى هذا المؤتمر قبل أسابيع، وطالبت جميع الأطراف المعنية في لبنان بالمشاركة في هذا المؤتمر، من أجل منع انتهاك اتفاق الطائف في ضوء المستجدات. وحضر المؤتمر أغلب القوى والتيارات السياسية والطائفية في لبنان، باستثناء ممثلي حزب الله.
ألقى السفير السعودي كلمةً في بداية هذا المؤتمر، وادعى أن "مؤتمر اتفاق الطائف يظهر اهتمام السعودية وقيادتها بالحفاظ على أمن ووحدة واستقرار لبنان. إننا نشعر بالحاجة الشديدة إلى صيغة للتعايش السلمي في لبنان والحفاظ على الهوية العربية لهذا البلد، ونؤكد أن أي بديل لاتفاق الطائف يعني الذهاب إلى مصير مجهول."
كما حضر المؤتمر نجيب ميقاتي رئيس الوزراء المكلف بتشكيل الحكومة اللبنانية، وقال إن "اتفاق الطائف يعتبر الركيزة الأساسية لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية قبل حوالي 30 عاماً، وهو ذو أهمية كبيرة بالنسبة لـبلادنا. وحضورنا الكبير هنا بمناسبة الذكرى الثالثة والثلاثين لهذه الاتفاق، يدل على أهمية هذا الاتفاق، الذي لا يزال أحد أنسب وأفضل الاتفاقات للبنان بعد 30 عاماً."
لکن موقع العهد الإخباري اللبناني، ومن خلال نشره تقريرًا، ذكر أن السعودية التي لم يعد لها نفوذ كبير في الساحة السياسية اللبنانية، تحاول إيجاد موطئ قدم لها في الساحة السياسية اللبنانية مرةً أخرى من خلال الادعاء بأن اتفاق الطائف لا يتم تنفيذه، حتی تواصل مؤامراتها على أهل هذا البلد.
إن تصرفات السفير السعودي ولجوئه إلی اتفاق الطائف، مجرد محاولة للتغطية على الهزيمة السعودية في لبنان، سواء على مستوى السياسة الخارجية أم دعم العديد من المتهمين بسرقة أموال اللبنانيين بقيادة الرياض واتفاق الطائف.