الوقت_ أزمة كبيرة تعاني منها بعض الصحف الجزائريّة وعلى رأسها صحيفة "الوطن" التي تعيش أزمة اقتصاديّة غير مسبوقة في ضوء التغييرات التي أفرزها الحراك الشعبي ووصول مسؤولين جدد إلى السلطة في البلاد، وإنّ هذه الفترة الحساسة التي تمر بها الصحافة الجزائرية تأتي بعد أن أرغمت العديد من الجرائد التي أسست بعد الانفتاح الديمقراطي في تسعينيات القرن الماضي على التوقف عن الصدور، وقد عرف الجزائريون كل انواع وسائل الإعلام في وقت مبكر من القرن 20 مقارنة بكل الدول العربية، فقد اجتهدت الادارة الفرنسية على إنشاء كل انواع وسائل الاعلام المتاحة على أرض الجزائر المحتلة من اجل فرض الامر الواقع منذ وطئت أساطيله سواحل و موانئ سيدي فرج البحرية في 1830، و استمر الحال على ذلك بتمدد استعماري عسكري في البلاد في مواجهة مقاومة شعبية، وقد عرفت الجزائر انخراط الصحافة في حياة الناس سواء عبر الاستعمار الفرنسي أو عبر الجزائريين على اختلاف الوانهم السياسية ومواقفهم من الوجود الاستعماري في الجزائر.
وإن الإعلام الفرنسي الغاضب من الضغوط على صحافته هناك، تحدث عن الصحف التي أغلقت عمداً مثل جريدة "لوماتان" (الصباح) التي تصدر بالفرنسية في عهد الرئيس المتوفى عبد العزيز بوتفليقة الذي زج بمديرها محمد بن شيكو في السجن لأكثر من عام بسبب نشره لكتاب تضمن انتقادات بحقه، جاء دور جريدة "ليبيرتي" (حرية) التي كان يملكها رجل الأعمال الثري أسعد ربراب بغلق أبوابها في 14 أبريل/نيسان 2022 لأسباب "مالية واقتصادية"، فقد أدرك المسؤولون الجزائريون اهمية مواجهة الدعاية الفرنسية داخليا و خارجيا على ما يبدو.
وفي هذا الصدد، إنّ الغياب النهائي لهذه الصحيفة كان بمثابة صدمة كبيرة للقراء الجزائريين الذين تعودوا عليها لمدة ثلاثين عاما تقريبا، فيما حاول موظفو هذه الجريدة الخاصة شراء أسهم الشركة، إلا أن مالكها الأصلي رفض هذا المقترح لأسباب وصفها البعض بـ "السياسية"، ولم تنته بعد صدمة اختفاء يومية "ليبيرتي" من المشهد الإعلامي الجزائريّ حتى جاءت صدمة أخرى لتهز عالم الصحافة، حيث دخلت جريدة "الوطن" التي تصدر بالفرنسية نفقا مظلما بسبب نقص الموارد المالية التي تجنيها عبر الإعلانات، هذه العوائد المالية تقلصت منذ زمن الرئيس السابق بوتفليقة الذي أمر "الوكالة الوطنية للنشر والإشهار"، وهي وكالة عمومية تقوم بتوزيع المساحات الإعلانية الخاصة بالإعلام الجزائري، بعدم منح مساحات لبعض الجرائد "الناقدة" وأبرزها جريدة "الوطن".
إضافة إلى ذلك، مارس الرئيس الجزائريّ السابق ضغوطات كبيرة على الشركات العمومية والخاصة لتتوقف وتمتنع عن شراء مساحات إعلانية على صفحات جريدة "الوطن" بسبب خطها التحريريّ الناقد، لتتأثر رويداً رويداً بهذا القرار إلى درجة أنها تسير هي الأخرى اليوم نحو الخروج من المشهد الإعلاميّ الجزائريّ، وتعد هذه الجريدة الصادرة باللغة الفرنسيّة من بين أرقى الجرائد التي ظهرت في الجزائر عام 1990، وهي صحيفة تهتم بالقضايا الدولية ومن قرائها العديد من الدبلوماسيين الأجانب في الجزائر، حتى أن البعض يلقبها بـ "لوموند" الجزائرية.
وبالتزامن مع هذا التهديد بالتوقف عن الصدور، نظم موظفو وصحفيو هذه الجريدة إضرابا عن العمل لمدة يومين قابل للتجديد (الأربعاء والخميس) ولا سيما أنهم لم يتقاضوا رواتبهم لمدة 5 أشهر كاملة، وهو ما أضر بوضعهم الماليّ والاجتماعيّ وجعل الاستمرار على هذه الصورة أمرا صعبا للغاية بالنسبة لهم، وفي مقال نشر على الصفحة الأولى للجريدة الثلاثاء، دق مجلس إدارة "الوطن" ناقوس الخطر بشأن الوضع المالي "الحرج" الذي تمر به الجريدة، مشيرا إلى أن موظفي الصحيفة (عددهم يبلغ مئة وخمسين شخصا) قرروا تنظيم إضراب لمدة يومين للمطالبة بدفع أجورهم.
ووفقاً للمعلومات، حذر المجلس من أن "أمد الأزمة قد يطول بسبب عدم توافر أي حل في الأفق قد يخفف الاختناق المالي الذي تمر به الشركة" منتقدا في الوقت نفسه قرار بنك القرض الشعبي الجزائري "تجميد حسابات الشركة رغم المحاولات المستمرة لإيجاد حل لهذه المشكلة". كما أثنى مجلس الإدارة لجريدة "الوطن" على "الصبر" و"التفاني" اللذين أبداهما موظفو الصحيفة" منذ أشهر، موضحا أن "جميع النداءات التي أطلقها تجاه السلطات العمومية بالجزائر من أجل النجدة لم تلق أذانا صاغية".
وفي ظل جو من الحزن بات يسود أروقة الجريدة، يقول أحد الصحفيين لوسائل إعلام فرنسيّة ولم يفصح عن اسمه: "لقد تبادرت في أذهاننا كل السيناريوهات لنهاية جريدة عريقة مثل "الوطن" عدا أن تغلق أبوابها لأسباب مالية"، مشيرا إلى أن "الصحفيين أبدوا تفهما كبيرا للوضع وقبلوا بعدم تقاضي أجورهم لمدة خمسة أشهر كاملة، لكن للصبر حدود". كما نقد الصحفي نفسه ملاك الشركة وأشار إلى "تسييرهم غير المحكم خلال سنوات عديدة، ما أدى إلى تراكم الديون على الجريدة".، مضيفاً إنّ الصحفيين في جريدة "الوطن" قاموا بالإضراب دون قناعة لكونهم يحبون هذه الجريدة ويعملون من أجلها منذ سنين، لكن بعد انتظار طويل، لم يسع ملاكها لحل الأزمة، لذا قرروا التوقف عن العمل"، وأنهى قائلا "سوف تتخذ مبادرات أخرى ابتداء من الأسبوع المقبل في حال لم يتم دفع الأجور".
وفي بيان نشره على مواقع التواصل الاجتماعي، أكد الفرع النقابيّ التابع لجريدة "الوطن" أن "صحفيي الجريدة ظلوا خمسة أشهر دون أن يتقاضوا رواتبهم، خمسة أشهر فضلوا الاستمرار في العمل من أجل صدور الجريدة وعدم حرمان القراء منها وحافظوا على جو وظيفي هادئ، وتابع البيان: "لكن وفي غياب أي حل وصعوبة تحمل موظفي شركة الوطن وحدهم هذا العبء، قرروا اتباع ما ينص عليه القانون". وأضاف: "على ملاك اليومية إيجاد الحلول التي تسمح بدفع رواتب الموظفين. أما القضايا الأخرى مثل تلك التي تتعلق بالمشاكل مع مديرية الضرائب والبنوك، فلا دخل لنا فيها".
وفي هذا الشأن، حاول محمد طاهر مسعودي، المدير الحالي للجريدة إعطاء معلومات إضافية حول الأزمة التي تعصف بأحد أكبر اليوميات الجزائرية بالقول إن "مديرية الضرائب هي التي رفضت منح مهلة زمنية لتسديد الضرائب والديون المترتبة عليها، وما زاد الطين بلة حسب مسعودي هو "رفض البنك الذي تتعامل معه الشركة أن يقرض الجريدة المال الكافي لدفع أجور الموظفين"، ووصف مسعودي قرار البنك بـ"غير المبرر" لكون الجريدة لا تزال "تملك بعض الأصول المالية التي قد تمكنها من تسديد ديونها"، كما أن "قرار مصالح الضرائب الجزائرية دفع القيمة المضافة على نسخ الجرائد التي لم تبع في الأسواق هو الذي يقف وراء المشاكل المالية للجريدة"، مؤكدا أنه "حاول إيجاد حل لهذه المشكلة لكن دون جدوى لغاية الآن". ودعا محمد طاهر مسعودي المضربين إلى "فتح حوار بناء مع الإدارة" وأوضح "لأننا نتواجد على متن سفينة واحدة".
ومن الجدير بالذكر أن جريدة "الوطن" تعرضت بالفعل إلى ضغوطات اقتصادية مارستها الحكومات المتعاقبة، بدأت في 2014 عندما قررت الجريدة عدم مساندة العهدة الرابعة للرئيس بوتفليقة، حيث تقلصت مساحات الإعلان بالتدريج حتى الاندثار، فأصبحت الجريدة شبه خالية منها، علما أن الإعلانات هي التي تضمن للصحيفة عوائدها المالية.
وعقب سقوط النظام الجزائري السابق في 2019، تنفس ملاك "الوطن" الصعداء وراحوا يأملون بعودة المساحات الإعلانية إلى صحيفتهم، لكن مقالا يتهم أبناء رئيس أركان الجيش الجزائري السابق قايد صالح بالفساد أنهى حلم استعادة الصحيفة عافيتها الاقتصادية، حسب تحليل للصحفي علي بوخلاف الذي نشر على موقع "ميدل إيست أيس"، حيث إن جريدة "الوطن" ليست الوحيدة التي ترزح تحت المشاكل المالية، فهناك وسائل إعلامية عديدة تعاني من شح الموارد المالية وهي أيضا مهددة بالزوال وذلك أمام أعين الحكومة التي وصلت إلى سدة الحكم بعد الحراك الشعبيّ في البلاد.
كل هذا أثار غضب المدافعين عن حقوق الإنسان وحرية التعبير على غرار منظمة "مراسلون بلا حدود"، التي كتبت أن "الصحافة في الجزائر تحدها العديد من الخطوط الحمراء، حيث إنّ مجرد الإشارة إلى الفساد أو قمع المظاهرات من شأنه أن يكلف الصحفيين التهديدات والاعتقالات،" لكن بالمقابل، أشارت إلى عدم وجود أي صحفي في السجن في الوقت الحالي، وهذه وجهة النظر المشتركة مع العديد من الجمعيات المدافعة عن حقوق الإنسان.