الوقت - إن غرس الشجرة هو رمز للأعمال الصالحة وإحياء الطبيعة، لكن في بعض الأحيان يكون أيضًا رمزًا للسياسة والاحتلال والقمع وتحقيق المكاسب.
هل من الممكن تحقيق أهداف سياسية كبيرة، من خلال زراعة عدد قليل من الشتلات الصغيرة في سهل شاسع؟ في أي مکان من هذا العالم الشاسع يتسبب غرس الشجرة في أعمال شغب وموجة من الاضطرابات والتوتر؟ أساساً، هل يمكن تحقيق هدف شرير من خلال الحسنات أو المصلحة العامة؟ لماذا يجب أن يواجه غرس الأشجار في الأراضي المحتلة بجنوب فلسطين موجةً من الاحتجاجات، ويجذب انتباه وسائل الإعلام العالمية؟
تغطي صحراء النقب نحو 55٪ من الأراضي الجنوبية المحتلة. بالطبع، هذه الصحراء أقل أهميةً من الناحية الاستراتيجية من المناطق الشمالية، بالقرب من غزة، وخاصةً حول القدس الشريف، ولكن نظرًا لحجم الأرض، فقد كانت دائمًا موضع اهتمام الصهاينة.
كانت هذه المنطقة في الأصل مملوكةً للعائلة الهاشمية في الأردن، ولكن في عام 1922، بوساطة وتعاون من الجاسوس البريطاني، سانت جون فيلبي( (St John Philby، المعروف باسم الشيخ عبد الله، انضمت إلى الأراضي الفلسطينية. ولهذا السبب بالتحديد، حتى عام 1946، كان معظم سكان هذه المنطقة الكبيرة من العرب.
وفي العام نفسه، وضعت الوكالة اليهودية خطةً لتجهيز إحدى عشرة نقطة في صحراء النقب للمستوطنين اليهود. وكان هذا الإجراء قبل إعلان الحكومة الإسرائيلية الاستقلال وإضفاء الطابع الرسمي على احتلالها.
وبعد نحو عامين، أيدت الأمم المتحدة رسميًا الاحتلال الإسرائيلي بإضافة الصحراء إلى الأراضي المحتلة. ولا تزال أعداد كبيرة من الفلسطينيين العرب تعيش في المنطقة، ولا تزال غالبية المنطقة من البدو العرب، ولكن مع توسع المستوطنات اليهودية والإجراءات التوسعية الإسرائيلية، تتزايد التوترات في هذه المنطقة.
غرس الأشجار في النقب
قبل أسابيع قليلة، بدأ الصندوق القومي اليهودي بغرس الأشجار في النقب، بالتزامن مع عيد شافوعوت اليهودي في 16 كانون الثاني (يناير). بالطبع، هذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها هذا الأمر، لأن خطة غرس الأشجار في النقب نفذت منذ سنوات من قبل الصندوق القومي اليهودي، لتضييق الخناق على العرب في هذه المنطقة.
الصندوق القومي اليهودي، الذي بدأ باحتلال الأراضي الفلسطينية حتى قبل قيام الکيان الإسرائيلي(منذ عام 1901)، يمتلك رسمياً أكثر من 10٪ من الأراضي المحتلة. أي إن حكومة إسرائيل لا تملك كل الأراضي المحتلة!
هذه المؤسسة شبه الحكومية الثرية هي الداعم الرئيسي للصهيونية العالمية، وتتألف فقط من عدد قليل من العائلات البارزة وعملائها. لكن هذه المرة قام الصندوق القومي اليهودي بزرع الأشجار بالقرب من مناطق سکن عائلة الأطرش(إحدى أكبر القبائل التي تعيش في النقب). وحسب الإحصائيات الرسمية، قام الصندوق القومي اليهودي بزرع أكثر من 240 مليون شتلة منذ إنشائه! لماذا؟
لأنهم فيما بعد، وبسبب زرع الأشجار نفسها، يطالبون بملكية تلك الأراضي. ويمكن القول إن هذا النوع من المطالبة بملكية الأرض كان أعظم سلاح إسرائيلي في الاستيلاء على الأراضي العربية. بالطبع، إنها أيضًا خدمة رائعة للبيئة، وبالتالي فهي مدعومة من قبل الأمم المتحدة والمنظمات البيئية الأخرى.
التبرعات التي تأتي من جميع أنحاء العالم لمساعدة الصندوق القومي اليهودي، تصل أحيانًا إلى عشرات الملايين من الدولارات. أعلن الصندوق القومي اليهودي مؤخرًا أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تزايدت فيها الأشجار والمساحات الخضراء منذ بداية القرن العشرين. وهذا القدر من الخدمات البيئية لا مثيل له في أي مكان في العالم!
في عام 2006، وقَّع الصندوق القومي اليهودي اتفاقيةً جديدةً مع الحكومة الإسرائيلية، منحت الصندوق 30 ألف هكتار من الأراضي في صحراء النقب بتصريح لمدة 49 عامًا.
ووفقًا للإحصاءات الرسمية للصندوق، يتم تدمير 60٪ من الغابات المبنية. ويعتقد العديد من الخبراء وحتى المسؤولين في الصندوق نفسه، أن جزءًا كبيرًا من غرس الأشجار يتم لأغراض استراتيجية وسياسية ولتضييق الخناق علی العرب في المنطقة.
قوبلت عملية زرع الأشجار الإسرائيلية الأخيرة في صحراء النقب على الفور باحتجاجات من العرب الرحل أو شبه الرحل (البدو). هؤلاء العرب منتشرون في الصحراء لسنوات، لكن إسرائيل فضلت دائمًا أن يعيشوا في مکان واحد وفي مدن معينة لديها سيطرة أكبر عليها.
لكن العرب البدو يعتقدون أن البدو لهم الحق في السفر، ولا ينبغي أن يتركزوا في مكان واحد. لكن من ناحية أخرى، من الصعب جدًا على إسرائيل السيطرة على قوم متنقلة وتقييدها، ولذلك تطلب منهم السکن في مکان واحد.
يعتقد زعماء العشائر العربية أن عملية غرس الأشجار هي خطة للحد من مناطق سکن البدو، وكذلك للاستيلاء على الأراضي التي كانوا يملكونها في السابق. في الواقع، لا تأخذ زراعة الأشجار في السهول أماكن جديدة من البدو فحسب، بل تقيد أيضًا بعض الأماكن القديمة.
ويعتقد الصندوق القومي اليهودي أن هذا الأمر هو مجرد غرس بسيط للأشجار للحفاظ على البيئة وتحسينها، ولكن ليس سراً أن القضية الرئيسية في الأراضي الفلسطينية المحتلة هي الجغرافيا والمزيد من الاستيلاء على الأراضي.
تصاعدت احتجاجات العشائر البدوية إلى أعمال عنف بعد أيام قليلة من بدء غرس الأشجار في يناير. حيث نزل الفلسطينيون إلى الشوارع في البلدات المجاورة للاحتجاج بإلقاء الحجارة، والتظاهر وإضرام النار في بعض حواجز الطرق. وقد تم اعتقال ما لا يقل عن 18 عربيًا، بينهم سبعة مراهقين، خلال الاحتجاجات.
منصور عباس، رئيس أحد الأحزاب الإسلامية في الکيان الإسرائيلي، احتج على خطوة الصندوق القومي اليهودي، زاعمًا أن زراعة الأشجار تمت على أراضي عائلته.
في الحقيقة، يعتقد منصور عباس أن غرس الأشجار لم يتم في الأراضي المحتلة، بل في الأراضي الخاصة ولتضييق الخناق علی هذه الأسرة العربية الكبيرة. وهدد بعدم تشكيل تحالف سياسي مع الأحزاب الإسرائيلية الأخرى، إذا استمرت هذه العملية.
وبينما لم تتمكن الشرطة الإسرائيلية من وقف الاحتجاجات دون عنف، أعربت حرکة حماس أيضًا عن دعمها للمتظاهرين. وقال المتحدث باسم حماس عبد اللطيف القانوع في بيان إنه يؤيد احتجاجات عشائر جنوب فلسطين، مهدداً إسرائيل بعمليات فلسطينية شجاعة إذا استمرت هذه العملية.
في غضون ذلك، دافع بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء السابق للکيان الإسرائيلي وزعيم حزب الليكود، عن الإجراءات الأمنية ضد عرب المنطقة عبر صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي، معلناً دعمه لعملية غرس الأشجار.
لكن يائير لابيد، المستشار السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، ردَّ بحدة على نتنياهو، وقال: اثنا عشر عاماً من الإهمال للنقب والعرب البدو قد حدث في عهده (نتنياهو)، والآن يجب عدم استخدام العنف.
زيتون أم صنوبر؟
من علامات النية السياسية للصهيونية في غرس الأشجار، عداوتها لشجرة الزيتون.
كما قلنا، بدأت زراعة الأشجار في الأراضي المحتلة في بداية القرن العشرين كتكتيك للاستيلاء على الأراضي. ولكن لأن الزيتون موجود تاريخيًا في الثقافة العربية والغطاء النباتي الأصلي هناك هو شجيرات الزيتون، فقد اقتلع الإسرائيليون أشجار الزيتون وزرعوا أشجار الصنوبر بدلاً من ذلك. وهذا في تناقض صارخ مع ادعائهم بالرفق بالطبيعة، لكن الحقيقة هي أن غرس شجرة الزيتون يصبّ في مصلحة الأرض العربية.
تقليدياً، لم تكن شجرة الزيتون رمزًا للسلام العربي للفلسطينيين فحسب، بل كانت أيضًا مصدرًا للتجارة والاقتصاد. ولذلك، فإن اقتلاع أشجار الزيتون هو في الحقيقة ضرب لاقتصاد "عدو" الصهاينة.
والأسوأ من ذلك كله، اقتلاع الأشجار وتدميرها خلال موسم التكاثر. حيث إنه قبل بضع سنوات اقتلعت الحكومة الإسرائيلية ألف شجرة زيتون، بتهمة زراعة شجرة الزيتون من دون تصريح في الضفة الغربية!
في الواقع، عندما يدخل الصندوق اليهودي القومي أسمدة الصنوبر ومبيدات الآفات على نطاق واسع في الأراضي المحتلة ويزرع الأشجار على نطاق واسع، فإن له أيضًا أغراضًا دينية واقتصادية.
في الحقيقة، يعتقد اليهود الصهاينة أن أرض الميعاد كانت مليئةً بالغابات ومغطاةً بأشجار الصنوبر حتى قرون قليلة مضت، وأنه من أجل استعادة تلك الأراضي، يجب إحياء غابات الصنوبر.
ولذلك، عندما يرسل الفلسطينيون ماشيتهم إلى أشجار الصنوبر للحصول على الطعام، فإننا نشهد نوعًا من الحرب الأيديولوجية. لكن هذه الحرب ليست متساويةً بأي حال من الأحوال. لأنه من جهة، يوجد الصندوق القومي اليهودي بملايين الدولارات وبدعم حكومي، ومن جهة أخرى يوجد أغنام العرب البدو التي ترعى شتلات إسرائيلية.
الحقيقة أن حرب الكيان الصهيوني مع الفلسطينيين يمكن تلخيصها في رمزي الزيتون والصنوبر. حيث ترمز كلتا الشجرتين إلى التمسك بالأرض، مع اختلاف أن الزيتون هو النسيج السائد والأصلي للأرض، وكان الصنوبر تاريخيًا هو الغطاء السائد لأراضي بني إسرائيل. والزيتون هو رمز للمقاومة العربية ورمز للسلاح، ويحاول الصهاينة نزع سلاح العرب الفلسطينيين، وغرس أسلحتهم في الأرض.
في مقابلة حديثة، اعترفت تمار زاندبرغ، الوزيرة الجديدة لحماية البيئة في حكومة الکيان الإسرائيلي، بأن إسرائيل لم تتخذ بعد أي إجراء جاد لحماية الطبيعة.
لکن يجب أن نسألها لماذا تتجاهل زراعة ملايين أشجار الصنوبر؟ الجواب واضح؛ إنها تعلم جيدًا أن تلك الأشجار لم تُزرع من أجل الطبيعة على الإطلاق، بل كانت تلك الأشجار في الواقع أسلحةً استخدمت ضد الفلسطينيين.
تعتبر التوترات الأخيرة في المناطق الجنوبية من الأراضي الفلسطينية المحتلة، واحدةً من العديد من التطورات التي حدثت حول غرس الصهاينة للأشجار في هذه المنطقة.
لكن هذه المرة يبدو الأمر أكثر خطورةً؛ فإذا وصلت نيران هذه الأحداث إلى مناطق حساسة مثل الضفة الغربية أو قطاع غزة والقدس، فستتخذ القضية لونًا مختلفًا. ولعل ذلك سيؤدي إلى توحيد القبائل العربية الفلسطينية، ويمهد الطريق لتحرير فلسطين.
في الوقت الحالي، يبذل السياسيون الإسرائيليون قصارى جهدهم لتجاوز هذه الأحداث ببطء، وفي الوقت نفسه يواصلون زراعة الأشجار وقضم الأراضي. من ناحية أخرى، وبعد تغيير رئيس الوزراء وحكومة الکيان الإسرائيلي، لم تتوصل الأحزاب بعد إلى ائتلاف قوي، وتنوي جميعها كسر هذا التحالف.
وإدراكًا لهذا الضعف، تحاول الحكومة الجديدة التغلب على التوترات في منطقة النقب ببطء، وهي تعلم جيدًا أن الوقت الحالي ليس مناسبًا لتوجيه التهديدات. وبالتالي، أمر وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد بعد أيام قليلة بوقف زراعة الأشجار، لحين اتضاح الأمور في المنطقة.