الوقت- وضع الضعف المزمن لليرة التركية أمام الدولار الاقتصاد التركي على منحدر خطير. ولقد وصل سعر كل دولار أمريكي إلى 9 ليرات و 66 قروش، ولم يتبق سوى 34 قروش ليصبح سعر الدولار 10 ليرات تركية. وهذا الرقم القياسي غير المسبوق في التاريخ الاقتصادي لتركيا، مقلق للغاية للنشطاء الاقتصاديين والمحللين. وحول هذا السياق، أفادت عددا من الصحف التي تتخذ من أنقرة مقراً لها أنه مع الارتفاع السريع في قيمة الدولار، أصبحت أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية مرتفعة جدا، وعندما يسمع الناس أن متجرًا يبيع الزيت السائل لمدة أسبوعين بعروض تخفيضية، نرى الاندفاع الكبير من الناس للشراء وتشكيل طوابير طويلة. ولقد أدى التضخم والبطالة، إلى جانب الارتفاع الحاد في تكاليف الإنتاج والاستيراد، إلى خلق ظروف قاسية لملايين الأسر التركية، ويعتقد معظم المحللين أن تركيا عادت إلى السنوات الصعبة للغاية قبل 30 عامًا. لكن الحكومة والمسؤولين السياسيين والاقتصاديين ما زالوا يعتقدون أنه لا يوجد شيء اسمه أزمة وأن كل شيء طبيعي. وقد صرحت حكومة "أردوغان" مرارًا وتكرارًا أن انتشار الفقر والجوع في تركيا ليس حقيقيًا، وهذا ليس سوى جزء من الحرب النفسية وابتزاز لتركيا من قبل الأعداء. لكن عند إلقاء نظرة عامة على الأسعار وتحليل اوضاع الاسواق والمجتمع تظهر أن ملايين الأسر التركية تعاني من ضائقة اقتصادية شديدة ويعيشون حاليا في ضائقة مالية.
انخفاض التصنيف الائتماني المالي لتركيا
أصبح من الصعب على الحكومة التركية بشكل متزايد تأمين موارد النقد الأجنبي، ويحجم كبار المستثمرين العالميين عن الاستثمار في تركيا. ونتيجة لذلك ، تسعى تركيا لجذب المستثمرين الإماراتيين والقطريين وتأمل أن يجلب بيع العقارات للأجانب جلب المزيد من الدولارات إلى سوق الإسكان. لكن الأرقام الحالية ليست مهمة بالنظر إلى احتياجات تركيا وديونها الخارجية. وفي الوقت نفسه، خفضت مؤسسة S&P الائتمانية التصنيف الائتماني لتركيا من التصنيف المالي المتنامي B-Plus إلى التصنيف المالي غير السلبي المثير للقلق في تقريرها الائتماني العالمي الأخير. وتظهر التقارير الواردة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أيضًا أن تركيا تعد حاليًا واحدة من أكثر دول العالم مديونية، حيث تواجه صعوبة في سداد متأخراتها للعديد من المؤسسات والبنك الدولي.
من اللون الرمادي إلى الأسود
هناك قضية سياسية اقتصادية مهمة أخرى تم تداولها على نطاق واسع في وسائل الإعلام التركية والرأي العام والفضاء الإلكتروني هذه الأيام، وهي قرار فريق العمل المالي المعني بتركيا. ففي الاجتماع الأخير لمجموعة العمل المالي في باريس، تم إدراج تركيا في القائمة الرمادية للدول التي لا تتخذ الإجراءات اللازمة ضد جرائم غسل الأموال ودعم الجماعات الإرهابية. ودفع ذلك العديد من المسؤولين والسياسيين والنشطاء الاقتصاديين للتعليق على هذا الموضوع. حيث قال "علي باباجان"، زعيم حزب الوثبة والديمقراطية: "ما رأيناه لم يكن تحركًا غريبًا. كان من المتوقع أن تحل مثل هذه الكارثة بتركيا. لأنه للأسف لا يوجد شيء اسمه الشفافية المالية في نظامنا الاقتصادي. إذا لم يتحرك السادة نحو الشفافية المالية من أجل تنظيم الاقتصاد، فعليهم أن يعدوا أنفسهم بالفعل لكوابيس أكبر وأن يعلموا أنه لا توجد مسافة طويلة بين اللونين الرمادي والأسود. وإذا اتبعنا نفس الأمر، فلن يمر وقت طويل قبل أن يتم إدراج تركيا في القائمة السوداء لغسيل الأموال".
وأردف موجهًا حديثه للرئيس "رجب طيب أردوغان": "سعر فائدة البنك المركزي هو الأكبر في أوروبا، سعر الدولار يتزايد طوال الوقت والتضخم يتزايد، إذا كان مجالك الاقتصاد، فلماذا لا تصلحه وتقيل عثرته؟ لأنك لا تستطيع فعل ذلك". وأضاف "رحل مفهوم الكفاءة، تأتي القرارات من شخص واحد، أصبح القانون تحت الأقدام وتركيا محكومة بمراسيم منتصف الليل، وتحول محافظو البنك المركزي إلى العمال الموسميين، وأصبح كل انتقاد للسيد أردوغان جريمة". وفي سياق متصل أكد "باباجان" أن "دولت باهتشه لي"، رئيس حزب الحركة القومية، حليف الحزب الحاكم، شريك "أردوغان" في كل الأزمات التي حلت على رأس الأمة. وزاد قائلا: "هناك الكثير من الأزمات وباهشته لي شريك أيضًا في هذه الأزمة (الأزمة الاقتصادية) تمامًا مثل عام 2001، يفخر أردوغان بإنجازات إدارتنا في كل فرصة. لماذا لا تتحدث عن نجاحاتك في السنوات الأخيرة؟".
ويتوقع اقتصاديون أتراك أن القيمة الحالية التي وصل إليها سعر صرف الليرة التركية قد لا تقف عند الحد المذكور، خاصة مع تمسك البنك المركزي بسياسة خفض سعر الفائدة، فضلا عن سياسات تركيا الخارجية التي تنعكس أيضا على سعر الصرف، وهو ما بدا مؤخرا، بعد تلويح إردوغان بعملية عسكرية في الشمال السوري. ومنذ عامين يصر "إردوغان" على مسار خفض سعر الفائدة، في سياسة كانت كفيلة بإقدامه على إقالة أربعة محافظين للبنك المركزي، وأخيرا نائبين للمحافظ الحالي، "شهاب قافجي أوغلو". ولطالما أبدى إردوغان المؤيد لنمو قوي مدعوم بقروض متدنية الكلفة، معارضته لنسب الفوائد المرتفعة التي يصفها باستمرار بأنها "أصل كل الشرور"، مؤكدا أنها "تشجع التضخم".
وعلى الطرف ينظر الشارع التركي، وخاصة المعارض منه إلى تلك السياسة على أن "تحدٍ"، وأنها تعزز عدم بقاء البنك المركزي كمؤسسة مستقلة. وقبل خمسة أيام زار "كمال كلشدار أوغلو" زعيم "حزب الشعب الجمهوري" بشكل مفاجئ البنك المركزي، وعبر عن انتقاده للسياسة التي يسير فيها، وقال بحسب ما نقلت وسائل إعلام تركية إنه يجب أن يتصرف "من أجل المصلحة العامة". وقال زعيم حزب الشعب الجمهوري: "بدلاً من انتقاد فريق العمل المالي، يجب أن تنظر إلى أدائك. ما وضع تركيا على القائمة الرمادية هو عدم التزام الحكومة بالشفافية المالية. هذه القضية الهامة ستلحق ضررا كبيرا باقتصادنا. من أعطاك حق اللعب بسمعة تركيا السياسية والاقتصادية؟ إذا لم تتبع القوانين المهمة للشفافية المالية والالتزام بمبادئ مكافحة الدعم المالي للإرهاب في ممارساتك الإدارية المالية والاقتصادية، فسوف يرتفع الدخان في أعين الشعب التركي وسوف تدمر سمعة البلاد. اعتقلت الشرطة التركية مرارًا وتكرارًا كبار تجار المخدرات وزعماء عصابات المافيا وأحالتهم إلى المحكمة ، لكن بعض المسؤولين القضائيين أطلقوا سراحهم بمكالمة واحدة". واضاف: "لسوء الحظ، وصلنا الى وضع تم فيه تسهيل غسل الاموال وانشطة عصابات المخدرات واعمال اجرامية اخرى في تركيا".
وكان وزير التجارة التركي "محمد موش" قد أعلن، الثلاثاء الماضي، أنه "للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية" تتجاوز صادرات بلاده الـ1 بالمئة من الإجمالي العالمي. وأشار "موش"، عبر حسابه على "تويتر" إلى أن حجم الصادرات التركية عام 1980 كان يشكل 0.14 من نظيره العالمي، وفي 2000 ارتفع إلى 0.43، مضيفا: "المنتجات التركية أصبحت تصدر إلى كافة أصقاع العالم، هذا النجاح لكل تركيا". ومن جانبه توقع "إردوغان" تحقيق بلاده نموا اقتصاديا نسبته 9 بالمئة في عام 2021، وذلك بعد تعرضه لضربة على غرار اقتصادات أخرى في 2020، بسبب أزمة كورونا. وأوضح بحسب ما نقلت "الأناضول" أن معدل النمو الذي تحقق في الربعين الأول والثاني من عام 2021 يشير إلى إمكانية نمو الاقتصاد التركي بنسبة 9 بالمئة في عموم العام الجاري.
أخيرًا، يعد تخفيض قيمة العملة الوطنية التركية قضية سياسية تتعلق بالعديد من القضايا المحلية في تركيا وسياسات حزب العدالة والتنمية، وليس حدثًا اقتصاديًا مرتبطًا بالتطورات في الأسواق العالمية والإقليمية. وتعيش تركيا أوضاعا اقتصادية صعبة للغاية بالتزامن مع ضعف حاد في العملة المحلية، وارتفاع كلفة الإنتاج والاستيراد، في وقت تعاني فيه البلاد من التضخم وارتفاع نسب الفقر. ويضاف إلى ذلك مزيد من الأزمات التي يواجهها الاقتصاد المحلي والسكان، وسط ضعف في الثقة الاقتصادية وتراجع مؤشر ثقة المستهلك في البلاد، وتآكل ودائع المواطنين بسبب هبوط القيمة السوقية والشرائية للعملة المحلية.