الوقت- في خطوة غير مسبوقة على صعيد التحقيقات الأممية المرتبطة بفلسطين، خلصت لجنة التحقيق المستقلة التابعة للأمم المتحدة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة إلى أن ما يجري في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 يرقى إلى جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان.
التقرير، الذي ترأسته القاضية الجنوب أفريقية نافي بيلاي – الرئيسة السابقة للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا – حمّل المسؤولية المباشرة لقيادات الكيان الإسرائيلي، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو، إسحاق هرتزوغ، ويوآف غالانت، مؤكداً أن هذه القيادة أطلقت ونفّذت حملة منهجية ذات طابع إجرامي هدفها تدمير الشعب الفلسطيني في غزة كلياً أو جزئياً.
التقرير، الممتد على 72 صفحة، وثّق عبر مقابلات مع ضحايا وشهود، وتحليل صور أقمار صناعية وبيانات من مصادر مفتوحة، أن الكيان الإسرائيلي ارتكب أربعة من أصل خمسة أفعال نصّت عليها اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، وهي:
- القتل العمد لأفراد المجموعة.
- إلحاق أذى بدني أو نفسي جسيم بأفراد المجموعة.
- إخضاع المجموعة لظروف معيشية تهدف لتدميرها كلياً أو جزئياً.
- فرض تدابير تستهدف منع الولادات داخل المجموعة، وهو ما استندت إليه اللجنة في الإشارة إلى استهداف عيادة متخصصة في علاج العقم وأطفال الأنابيب بغزة.
اللجنة أوضحت أن الخطاب الرسمي الإسرائيلي، وعلى رأسه تصريحات نتنياهو، يُظهر "القصد الجنائي الواضح" (Genocidal Intent)، وهو الركيزة الأساسية في توصيف جريمة الإبادة، فقد شبّه نتنياهو في رسالة لجنوده في نوفمبر 2023 العمليات العسكرية بما وصفته اللجنة بـ"الحرب المقدسة للإبادة التامة" في النصوص التوراتية، وهو ما اعتُبر بمثابة دليل مباشر على التحريض والتنظير القانوني للجريمة.
الكيان الإسرائيلي يتنصل من التعاون
بعثة الكيان الإسرائيلي في جنيف رفضت التقرير واعتبرته "مُسيساً"، رافضة التعاون مع لجنة التحقيق. هذا الموقف ليس جديداً؛ إذ دأب الكيان على مقاطعة لجان تقصي الحقائق الأممية منذ مجزرة جنين 2002 مروراً بالحرب على غزة 2009 (تقرير غولدستون) وصولاً إلى العدوانات الأخيرة.
الأرقام الكارثية
وفق بيانات وزارة الصحة في غزة، بلغ عدد الشهداء أكثر من 64 ألفاً حتى سبتمبر 2025، بينهم عشرات الآلاف من النساء والأطفال. وإلى جانب القتل المباشر، يُحذّر برنامج مراقبة المجاعة العالمي (IPC) من أن أجزاء من غزة دخلت في مرحلة المجاعة الفعلية، وهو ما اعتبرته اللجنة "استخداماً ممنهجاً لسلاح التجويع"، الأمر الذي يشكل بدوره جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية وفق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
مقارنة مع رواندا
بيلاي، التي اكتسبت خبرة طويلة في ملفات الإبادة برواندا ويوغوسلافيا السابقة، قالت:
"ما يجري في غزة يُذكّرني بشكل مخيف برواندا 1994، آنذاك جرى نزع إنسانية الضحايا عبر تصويرهم كـ'صراصير'، واليوم نسمع وصف الفلسطينيين بالحيوانات، هذه اللغة هي البوابة الأولى لاقتراف الإبادة".
القوانين الدولية التي انتهكها الكيان الإسرائيلي
- اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية (1948)
نصت على أن الإبادة جريمة يعاقب عليها القانون الدولي سواء ارتكبت في وقت السلم أو الحرب، وألزمت الدول الأطراف بمنعها ومعاقبة مرتكبيها، اللجنة الأممية أكدت أن الكيان الإسرائيلي تجاوز هذا الإطار وارتكب أربعة أفعال من أصل خمسة محددة قانوناً.
- اتفاقيات جنيف الأربع (1949)
- اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين وقت الحرب تنص على حظر العقاب الجماعي، استهداف المدنيين، النقل القسري، وتدمير الممتلكات دون ضرورة عسكرية، جميع هذه المحظورات جرى توثيقها في غزة.
- المادة 33 تحظر العقوبات الجماعية، لكن الحصار الشامل والتجويع يثبت العكس.
- البروتوكولان الإضافيان لاتفاقيات جنيف (1977)
ينصان على حماية المدنيين وضمان مرور المساعدات الإنسانية، لكن الكيان الإسرائيلي تعمد عرقلة دخول الوقود والدواء والغذاء، وهاجم قوافل الإغاثة، وهو ما يمثل خرقاً مباشراً.
- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)
- المادة 3: الحق في الحياة والأمن.
- المادة 25: الحق في مستوى معيشي ملائم يشمل الغذاء والدواء.
جميعها دُفنت تحت ركام القصف.
- العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)
- المادة 6: الحق في الحياة، وهو "حق ملازم للإنسان".
- المادة 7: حظر التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية
تقارير منظمات دولية أكدت ممارسة الكيان للتعذيب والقتل الميداني.
- اتفاقية حقوق الطفل (1989)
- المادة 6: الحق في البقاء والنمو.
- المادة 24: الحق في الصحة والرعاية الطبية.
- المادة 38: حماية الأطفال في النزاعات المسلحة.
وقد قُتل أكثر من 17 ألف طفل، ما يعد انتهاكاً صارخاً.
- اتفاقية مناهضة التعذيب (1984)
اعتقالات جماعية، تعذيب ممنهج في مراكز الاحتجاز، واحتجاز مدنيين في ظروف غير إنسانية كلها مثبتة بتقارير موثقة.
- نظام روما الأساسي (1998)
يعتبر الإبادة، الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. أفعال الكيان الإسرائيلي تدخل جميعها ضمن هذه التصنيفات.
البعد السياسي والقانوني
اللافت أن هذا التقرير يُعدّ أقوى وثيقة أممية حتى اليوم تتبنى توصيف "الإبادة الجماعية"، رغم أن اللجنة لا تمثل رسمياً الجمعية العامة أو مجلس الأمن، لكن ضغوطاً تتزايد على الأمم المتحدة لاستخدام المصطلح نفسه.
في المقابل، يُحاكم الكيان الإسرائيلي بالفعل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بعد الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا، المحكمة كانت قد أصدرت في 2024 أوامر مؤقتة بوقف الأعمال التي قد تُفسَّر كإبادة، غير أن الكيان تجاهلها.
بينما تكتفي بعض الدول الغربية بالتأكيد على "حق الكيان الإسرائيلي في الدفاع عن نفسها"، تُظهر الوثائق الأممية أن ما يحدث ليس دفاعاً بل سياسة تدميرية متعمدة، المفارقة أن هذه الدول هي نفسها التي تبنّت اتفاقية منع الإبادة بعد فظائع الهولوكوست ورواندا، لكنها اليوم تتغاضى عن جريمة تُرتكب أمام أعين العالم.
دلالات استهداف عيادة العقم
أحد الجوانب المثيرة التي أوردها التقرير هو تدمير الكيان الإسرائيلي لعيادة متخصصة في علاج العقم وأطفال الأنابيب في غزة، اللجنة رأت أن هذا الفعل ليس مجرد استهداف عشوائي، بل يعكس نية واضحة لحرمان الفلسطينيين من القدرة على الإنجاب والتكاثر، وهو انتهاك مباشر للبند الرابع في تعريف الإبادة (فرض تدابير لمنع الولادات).
التقرير استند إلى مقابلات مع أطباء ومسعفين أكدوا أن القصف المتكرر استهدف البنية الصحية، من مستشفيات إلى مراكز إغاثة، كما أوضحوا أن آلاف الجرحى تُركوا ليموتوا بسبب نقص العلاج، وهو ما يدخل ضمن "الإخضاع لظروف معيشية مميتة".
نحو أي مستقبل يتجه الملف؟
- قانونياً: التقرير يفتح الباب أمام استخدامه كدليل في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.
- سياسياً: يضع الدول الغربية أمام مأزق أخلاقي إذا ما استمرت في التغطية على جرائم الكيان.
- إنسانياً: يُعيد النقاش حول مسؤولية المجتمع الدولي في التدخل لوقف جريمة الإبادة قيد التنفيذ.
مقارنة بالسوابق الدولية
- رواندا (1994): إبادة مليون إنسان خلال 100 يوم، التدخل جاء متأخراً.
- البوسنة (1995): مجزرة سربرنيتسا اعتُبرت إبادة بحكم المحكمة الدولية.
- غزة (2023–2025): رغم كثافة التوثيق الفوري، لا يزال المجتمع الدولي عاجزاً عن ردع الكيان.
التقرير الجديد للجنة التحقيق الأممية يُعتبر جرس إنذار حادّاً للعالم: ما يحدث في غزة ليس مجرد "حرب" أو "عملية عسكرية"، بل جريمة إبادة جماعية مكتملة العناصر، يرتكبها الكيان الإسرائيلي بحق أكثر من مليوني إنسان محاصرين.
انتهاك القوانين الدولية، من اتفاقية الإبادة إلى اتفاقيات جنيف وحقوق الطفل، لم يعد مجرد جدل أكاديمي، بل واقعاً دموياً يومياً، الكرة الآن في ملعب المجتمع الدولي: هل يلتزم بميثاقاته وقوانينه، أم يترك غزة لتواجه مصير رواندا جديدة أمام كاميرات العالم؟