الوقت – في الثلاثاء، التاسع من أيلول، شقت الطائرات الصهيونية سماء الدوحة، عاصمة قطر، مخترقةً حرمتها في أول عدوان إسرائيلي يطال الأراضي القطرية منذ اندلاع أوار المعركة في غزة، استهدف هذا العدوان الغاشم قادة المقاومة الفلسطينية حينما كانوا منكبين على دراسة مقترح أمريكي لوقف إطلاق النار، وقد أثار هذا الاعتداء السافر موجة استنكار عارمة اجتاحت العالمين العربي والإسلامي والمجتمع الدولي، بيد أن ما يستوقفنا في هذا المقام هو تسليط الضوء على التداعيات الاقتصادية الوخيمة التي ستلقي بظلالها القاتمة على منطقة الشرق الأوسط والعالم بأسره.
قدّم “رضوان محمد سعيد”، رئيس وحدة الدراسات المصرية ومدير برنامج الدراسات الاقتصادية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، في تقرير وافٍ، تفصيلاً للتكاليف الاقتصادية الفادحة الناجمة عن العدوان الإسرائيلي على قطر، وهي على النحو التالي:
الخسائر المادية المباشرة
كشفت شركة “بلانيت لابز” للتصوير الفضائي في تقرير لها أن المقاتلات الإسرائيلية استهدفت مجمعاً سكنياً محاطاً بسياج، فضلاً عن تضرر خمسة مبانٍ مجاورة طالتها شظايا القصف الغادر، وعليه، فإن خسائر هذا القصف ستُلقي بأعباء مالية باهظة على كاهل الدولة القطرية، إذ ستتطلب إعادة إعمار هذه المنشآت مليارات الدولارات، في حين كان الأجدر توجيه هذه الأموال نحو مشاريع استثمارية تعود بالنفع والنماء على الدوحة، بدلاً من صرفها على ترميم ما دمرته آلة الحرب الصهيونية.
تصاعد أسعار النفط
تُعد أسعار النفط من المتغيرات الاقتصادية التي تهتز بشدة عند أول بارقة حرب أو عدوان يطال الدول المصدرة للنفط، وتتبوأ قطر مكانةً بارزةً بين الدول المصدرة في السوق العالمية للنفط، ويستند اقتصادها إلى امتلاكها ثالث أكبر احتياطي للغاز الطبيعي في العالم، تبلغ قيمة صادرات النفط القطرية نحو ثمانية ونصف مليار دولار إلى العالم أجمع، منها نحو ثلاثة مليارات دولار إلى الصين، وقرابة مليارين دولار إلى اليابان، ثم تتوزع البقية على سائر دول العالم، وقد صدّرت قطر في عام 2024 نفطاً مكرراً بقيمة تناهز 28.2 مليار ريال قطري.
من ناحية أخرى، أدى القصف الأخير على قطر إلى تفاقم أوار الصراع في غرب آسيا، تلك المنطقة التي تحتضن في جوفها نحو ثلث احتياطيات النفط العالمية، ونتيجةً لذلك، ارتفعت أسعار خام غرب تكساس الوسيط بنسبة ستة من عشرة بالمئة، لتصل إلى ثلاثة وستين دولاراً للبرميل الواحد.
وشهدت أسعار النفط يوم الأربعاء، في أعقاب قصف الدوحة، زيادةً تجاوزت الدولار للبرميل، وحلّقت العقود الآجلة لخام برنت بما يتراوح بين دولار وعشرة سنتات ودولار وسبعين سنتاً لتبلغ سبعة وستين دولاراً وتسعة وأربعين سنتاً للبرميل، بينما صعدت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط بمقدار دولار وأربعة سنتات، لتصل إلى ثلاثة وستين دولاراً وسبعة وستين سنتاً.
وسيترتب على ارتفاع الأسعار العالمية للنفط تكاليف اقتصادية باهظة للدول المستوردة له، فالنفط يُعد العصب الحيوي لإنتاج معظم السلع والخدمات، وبالتالي فإن ارتفاع سعره سيؤدي إلى تضخم تكاليف الإنتاج، ما سيفضي حتماً إلى ارتفاع معدلات التضخم في شتى بقاع المعمورة.
تفاقم تكاليف النقل
أسهم العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطر، في زعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط برمتها، وحيث إن ما بين اثني عشر وخمسة عشر بالمئة من التجارة العالمية تمر عبر مياه البحر الأحمر، فإن هذا التطور الخطير لن يقتصر تأثيره على زيادة تكاليف التأمين على العبور نتيجةً للهجمات اليمنية على السفن التجارية الإسرائيلية فحسب، بل إن العدوان الإسرائيلي على قطر سيضاعف تكاليف النقل العالمية، ما سيضطر السفن والحاويات إلى سلوك مسارات بحرية أكثر طولاً تستلزم نفقات تأمينية باهظة.
انهيار الأسواق المالية
في أعقاب العدوان الإسرائيلي على الدوحة، شهدت معظم الأسواق المالية الخليجية تراجعاً حاداً، فقد هوى مؤشر بورصة قطر (QSI) بنسبة ثلاثة من عشرة بالمائة متأثراً بخسائر فادحة واسعة النطاق، وتكبد أكبر مقرض في المنطقة، بنك قطر الوطني، خسائر بلغت خمسة من عشرة بالمئة، كما تراجع سوق الأسهم السعودي (تاسي) بنسبة ثلاثة من عشرة بالمئة، وفقدت أرامكو السعودية ستة من عشرة بالمئة من قيمتها، مسجلةً أسوأ أداء يومي لها منذ أكثر من نصف عقد من الزمان.
علاوةً على ذلك، انخفض المؤشر الرئيسي للسوق المالي في دبي (DFMGI) بنسبة ستة من عشرة بالمئة، متأثراً بتراجع أسهم بنك الإمارات دبي الوطني بنسبة اثنين بالمئة، وتراجع سوق أبوظبي للأوراق المالية (FTFADGI) بنسبة ثلاثة من عشرة بالمئة، مسجّلاً خسائر للجلسة الرابعة على التوالي، كما انخفض مؤشر بورصة البحرين (BAX) بنسبة اثنين من عشرة بالمئة، ما يعكس التكلفة الفادحة لقصف قطر على الأسواق المالية للدول الخليجية.
استشراف آفاق المستقبل
في ظل الوضع المتأزم الراهن واستمرار التوتر في المنطقة نتيجةً للعدوان الهمجي والحرب الضروس التي يشنها الكيان الصهيوني على غزة وسائر دول المنطقة، يُتوقع أن تتسع دائرة النار والدم في أرجاء غرب آسيا. تشير التقارير إلى أن الكيان الصهيوني قد أشعل فتيل العمليات العسكرية وألقى بقنابل التوتر في إحدى عشرة منطقة ودولة منذ السابع من تشرين الأول عام 2023.
وتشمل هذه المناطق والدول: غزة، والضفة الغربية، ولبنان، وسوريا، والعراق، وإيران، واليمن، ومالطا (هجوم طائرة إسرائيلية مسيرة على سفينة تابعة لأسطول الحرية لغزة قبالة سواحل مالطا)، ومصر (هجوم دبابة إسرائيلية على نقطة حدودية مصرية على حدود غزة في 22 أكتوبر 2023، ومقتل جندي مصري يدعى “خالد شريف عصفورة” جراء إطلاق نار عشوائي من قبل الجيش الإسرائيلي في رفح في 27 مايو 2024)، وتونس (هجوم على السفينة الرئيسية لأسطول الصمود لإنقاذ غزة بواسطة طائرة إسرائيلية مسيرة أُطلقت في المياه التونسية في 9 سبتمبر 2025)، وقطر.
ومن جهة أخرى، لا تزال تهديدات أقطاب الكيان الصهيوني تتصاعد ضد قطر. وفي ضوء ذلك، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات محتملة:
السيناريو الأول (المتفائل)
إذا اقتصر العدوان على ما جرى ولم يتمدد، فسيكون وقعه على اقتصاد قطر محدوداً، وستعود الهزات التي ضربت سوق النفط العالمي إلى سكينتها سريعاً، كما تعود المياه إلى مجاريها بعد اضطراب عابر.
السيناريو المتوسط (الأكثر رجحاناً)
مع استمرار وعيد المسؤولين الإسرائيليين وتهديداتهم المتلاحقة ضد قطر، يُرتقب تصعيد حدة التوتر حتى في عقر دار قطر، خاصةً أن الصهاينة أخفقوا في الهجوم السابق في بلوغ غايتهم الرئيسية المتمثلة في اغتيال قادة حماس في الدوحة، لذا، قد يكون استهداف منشآت الطاقة القطرية ورقة ضغط صهيونية على الدوحة لتسليم رجالات المقاومة. وسيفضي ذلك إلى انكماش ملموس في الناتج المحلي الإجمالي وتقلص إيرادات الغاز القطرية ولو بصفة مؤقتة، مما سيزلزل أركان الأسواق المالية الإقليمية.
وقد يمتد هذا السيناريو لسنوات عدة. وعليه، يبدو أننا قد نشهد في الأفق المنظور غارات إسرائيلية متقطعة ومحدودة على قطر بهدف الضغط عليها لطرد أو تسليم أعضاء حماس. وسيكون لهذا السيناريو تداعيات وخيمة على اقتصاد قطر والمنطقة برمتها.
السيناريو الأسوأ (قاتم الملامح)
يتنبأ هذا السيناريو بشنّ "إسرائيل" هجوماً كاسحاً على قطر واستهداف منشآتها الطاقوية الحيوية، ما سيشعل فتيل أزمة طاقة عالمية وخسائر تُقدر بمليارات الدولارات، وستكون النتيجة الحتمية لهذا السيناريو أزمةً مستعصيةً تمتد لأكثر من خمس سنوات، وستطال شظاياها، بالإضافة إلى غرب آسيا، الدول الغربية وأمريكا أيضاً، مغرقةً إياها في أزمة اقتصادية خانقة. ومع ذلك، ونظراً للتداعيات الكارثية لهذا السيناريو على اقتصادات أوروبا وأمريكا، يبدو من المستبعد أن يتبنى الكيان الصهيوني هذا المسلك في إطار هجوم شامل وواسع النطاق على قطر، مما يجعل هذا السيناريو بعيد المنال.
التداعيات على الاقتصاد العالمي
في خاتمة المطاف، تتخطى التبعات الاقتصادية للعدوان الإسرائيلي على قطر حدود اقتصاد هذه الدولة الخليجية، لتمتد كالنار في الهشيم إلى المستويين الإقليمي والعالمي، فعلى صعيد الخليج الفارسي والدول العربية، يشكّل استهداف منشآت أو بنى تحتية للطاقة تهديداً صارخاً لاستقرار الأسواق المالية، ويرفع من فاتورة الأمن القومي لدول المنطقة، كما قد يفضي إلى تحولات جذرية في خارطة التحالفات السياسية والاقتصادية في خضم الحاجة الملحة لنسج شبكات الحماية الجماعية.
أما على الصعيد العالمي، فإن أي اضطراب في تدفق الغاز الطبيعي المسال القطري، باعتبار قطر منبعاً رئيسياً للغاز المسال، سينعكس كالصاعقة على أسعار الطاقة العالمية، مفضياً إلى تقلبات عاصفة في الأسواق الأوروبية والآسيوية، وسيؤجج نيران أزمات الطاقة وموجات التضخم في الاقتصاد العالمي، كما ستتصاعد تكاليف التأمين والنقل في الخليج الفارسي، مما سيثقل كاهل التجارة العالمية.
وعليه، فإن فاتورة القصف الأخير على الدوحة ستتجاوز حدود قطر، وستتحول في حال استمرار التوتر إلى أزمة إقليمية وعالمية متشابكة الأطراف. ويرجع ذلك إلى أن الصراعات في منطقة الخليج الفارسي تحمل في طياتها دائماً أبعاداً اقتصاديةً تتخطى نطاقها الجغرافي، لتعصف بالنظام الاقتصادي الدولي برمته.