الوقت- في الوقت الذي تواصل فيه آلة الحرب الإسرائيلية قصفها اليومي لمناطق متفرقة في قطاع غزة، يظهر على السطح مشهد أكثر رعبًا من الدمار المادي، مجاعة تتكشف ملامحها شيئًا فشيئًا، وتفتك بأجساد الأطفال قبل غيرهم، ما كان في بدايات الحرب تحذيرات خافتة من منظمات إنسانية، أصبح اليوم حقيقة ماثلة، قطاع غزة يعيش رسميًا حالة قحط معلن من قبل مؤسسات أممية، في سابقة خطيرة هي الأولى من نوعها في منطقة الشرق الأوسط.
المشهد الإنساني هنا ليس مجرد نقص في المواد الغذائية أو صعوبة في إيصال الإمدادات الطبية، بل هو انهيار كامل لمنظومة الحياة: غياب للغذاء والدواء والماء، تدمير للبنية التحتية الصحية والتعليمية، وحرمان ملايين البشر من أبسط مقومات البقاء، والأسوأ من ذلك أنّ سكان غزة يدركون جيدًا أنّ العالم يكتفي بمشاهدة المأساة دون تدخل حقيقي يوقف النزيف.
القحط يطرق أبواب مدينة غزة
أطلق المتحدث باسم "اليونيسف"، تيس إنغرام، تحذيرًا صارخًا مؤخرًا من أنّ القحط لم يعد احتمالًا بعيدًا، بل أصبح واقعًا يهدد مدينة غزة وسيمتد إلى وسط القطاع خلال أسابيع إن لم تُتخذ إجراءات عاجلة.
حسب إنغرام، فإنّ عائلات بأكملها باتت عاجزة عن توفير الطعام لأطفالها، بينما تواصل الغارات الإسرائيلية استهداف المناطق السكنية، ما يدفع السكان إلى النزوح القسري نحو الساحل الغربي حيث تزداد أعداد المخيمات المؤقتة بشكل كارثي.
المديرون الطبيون في مستشفيات غزة بدورهم أبلغوا عن ارتفاع هائل في عدد الأطفال المصابين بجروح خطيرة نتيجة القصف، بالتوازي مع تدهور مؤشرات سوء التغذية، هذا المزيج القاتل من الجراح والحرمان من الغذاء يجعل فرص بقاء الكثير من الأطفال على قيد الحياة شبه معدومة.
شهادات من قلب المأساة
يروي إنغرام مشاهداته المؤلمة خلال زيارته لغزة:" التقيت آباءً وأمهاتٍ يمسكون بيدي باكين ويسألون: متى يصل الطعام؟ هل سيبقى طفلنا على قيد الحياة؟" هذه التساؤلات تختصر حجم اليأس المتفشي بين العائلات الفلسطينية.
اليونيسف لم تكن وحدها في دق ناقوس الخطر. فـ"عمار عمار"، المدير الإقليمي للاتصالات والدعم في المنظمة، أوضح أنّ ما يحدث في غزة لم يعد مجرد أزمة إنسانية تقليدية، بل عملية تدمير ممنهج للحياة نفسها: قصف مستمر، نزوح متكرر، تدمير المدارس والمستشفيات، وانعدام المياه الصالحة للشرب، حسب تقديراته، فإنّ أكثر من 1.1 مليون طفل يعيشون صدمات نفسية عميقة قد تلازمهم مدى الحياة، في ظل غياب أي أفق لوقف إطلاق النار.
الأطفال في مواجهة شبح المجاعة
الأرقام التي كشفت عنها اليونيسف قبل أسابيع صادمة: 13 ألف طفل في غزة يعانون من سوء تغذية حاد يهدد حياتهم بشكل مباشر، هذه الحالات تتطلب تدخلًا طبيًا عاجلًا في مراكز تغذية متخصصة، لكن الحصار يمنع إدخال المواد العلاجية الكافية، ما دخل مؤخرًا عبر قبرص لا يغطي سوى ألف حالة ولمدة شهر واحد فقط، بينما الحاجة الحقيقية تفوق هذا الرقم بعشرات المرات.
إلى جانب ذلك، رصدت الأونروا تضاعف حالات سوء التغذية بين الأطفال دون الخامسة ثلاث مرات منذ مارس الماضي، إذ بات ثلث أطفال غزة تقريبًا يعانون من نقص خطير في الوزن، وهو مستوى لم تشهده المنطقة من قبل.
القحط: جريمة مصنوعة بيد الإنسان
في تقريرها الأخير، شددت الأونروا على أنّ ما يجري في غزة ليس "كارثة طبيعية" كما يحدث في مناطق أخرى من العالم، بل هو قحط مصطنع نتيجة الحصار الإسرائيلي المطبق منذ أشهر، ومنع متعمد لدخول المساعدات، استمرار هذا المنع لنحو ستة أشهر أدى إلى تفاقم الكارثة وبلوغها مستوى غير مسبوق.
هذا الطرح أكده أيضًا "تصنيف المرحلة المتكاملة للأمن الغذائي" (IPC)، الجهة الأممية المسؤولة عن إعلان حالات القحط حول العالم، وللمرة الأولى في الشرق الأوسط، أعلنت هذه الهيئة رسميًا وجود قحط في غزة، بعد أن تحققت ثلاثة معايير أساسية:
- أكثر من 20% من الأسر تعاني من انعدام شديد للأمن الغذائي.
- أكثر من 30% من الأطفال يعانون من سوء تغذية حاد.
- معدل وفيات يتجاوز شخصين يوميًا من كل 10 آلاف بسبب الجوع.
وبذلك ينضم القطاع إلى قائمة قصيرة من المناطق التي شهدت إعلانًا رسميًا للقحط في العالم، معظمها في إفريقيا جنوب الصحراء.
نصف مليون إنسان في قلب المأساة
حسب تقرير داخلي اطلعت عليه صحيفة التلغراف البريطانية، فإنّ ما يزيد على نصف مليون إنسان في غزة يواجهون ظروفًا "كارثية" تشمل الجوع المدقع والفقر المطلق والتهديد المباشر بالموت، ويتوقع التقرير أن يمتد القحط مع نهاية سبتمبر إلى محافظات الوسطى وخان يونس.
إلى جانب هؤلاء، هناك أكثر من مليون شخص إضافي يعيشون في مستوى "أزمة غذائية حادة"، ما يعني أنّ الغالبية الساحقة من سكان القطاع لم تعد قادرة على تأمين احتياجاتها الأساسية.
الضحايا بالأرقام
وزارة الصحة في غزة أعلنت أنّ 271 شخصًا، بينهم 112 طفلًا، قضوا بالفعل بسبب الجوع، أكثر من نصفهم خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة فقط، هذه الأرقام مرشحة للارتفاع بشكل كبير مع استمرار منع المساعدات.
لكن الضحايا لا يُقاسون بالأرقام فقط، كل طفل يفقد حياته بسبب سوء التغذية هو شهادة على عجز المجتمع الدولي، وكل عائلة تُحرم من الغذاء هي ضحية مباشرة لاستخدام "التجويع كسلاح حرب".
البعد النفسي والاجتماعي للأزمة
إلى جانب الجوع والمرض، يواجه أطفال غزة آثارًا نفسية مدمرة، فبحسب تقديرات اليونيسف، فإنّ ما يقارب 1.1 مليون طفل يعانون من صدمات نفسية شديدة نتيجة مشاهد القصف وفقدان الأحبة ونقص الغذاء، هذه الصدمات قد تتحول إلى اضطرابات مزمنة في المستقبل، ما يعني أنّ الحرب الحالية تزرع جيلًا بأكمله من الأطفال المعطوبين نفسيًا.
كما أنّ النزوح المستمر وتكدس العائلات في مخيمات ساحلية مكتظة يزيد من احتمالات انتشار الأمراض والأوبئة، وخصوصًا في ظل غياب المياه النظيفة ونقص الأدوية.
ازدواجية المعايير الدولية
رغم التحذيرات المتكررة منذ شهور من منظمات إنسانية وصحية، لم يتغير شيء فعلي على الأرض، المجتمع الدولي يكتفي ببيانات "القلق العميق"، بينما الشاحنات التي تدخل عبر المعابر لا تكاد تكفي لأيام قليلة.
المفارقة أنّ العالم تحرك بسرعة غير مسبوقة في أزمات مشابهة في إفريقيا أو أوكرانيا، لكنه يلتزم الصمت تجاه غزة. هذا التناقض يعكس بوضوح ازدواجية المعايير في التعامل مع حياة البشر، ويثير تساؤلات حول القيمة الحقيقية للشعارات الإنسانية التي ترفعها القوى الكبرى.
الحاجة إلى وقف فوري لإطلاق النار
أجمع مسؤولو اليونيسف والأونروا على أنّ إدخال المساعدات لن يكون كافيًا ما لم يترافق مع وقف شامل لإطلاق النار، استمرار القصف يعني استمرار نزوح المدنيين، وتدمير البنية التحتية التي يمكن أن تدعم عمليات الإغاثة.
المساعدات الغذائية وحدها لا تكفي، إذ يحتاج سكان غزة إلى شبكة متكاملة من الماء والكهرباء والخدمات الطبية والتعليمية، أيّ حلول مؤقتة ستظل قاصرة إذا لم يُرفع الحصار وتُفتح المعابر بشكل كامل.
قحط غزة: وصمة عار على جبين العالم
المجاعة التي تضرب غزة اليوم ليست كارثة محلية تخص الفلسطينيين وحدهم، بل هي اختبار إنساني للعالم بأسره، ترك نصف مليون إنسان يواجهون الموت جوعًا أمام أعيننا، بينما تمتلك البشرية إمكانات هائلة لإطعامهم، هو وصمة عار لن تُمحى من الذاكرة التاريخية.
الأطفال الذين يموتون يوميًا بسبب الحرمان من الغذاء هم ضحايا مباشرة لصمت المجتمع الدولي وتواطؤه، وما لم يُتخذ إجراء عاجل لوقف هذه المأساة، فإنّ القحط في غزة سيظل شاهدًا على أن الإنسانية، كما تُمارَس اليوم، لا تعدو كونها شعارًا فارغًا.
بينما تُصدر المنظمات الأممية تقاريرها وتطلق تحذيراتها المتكررة، يبقى أطفال غزة في مواجهة الموت اليومي. المجاعة لم تعد خطرًا محتملًا، بل واقعًا ملموسًا يفتك بأجسادهم الصغيرة، وإذا كان القصف يقتلهم بسرعة، فإنّ الجوع يقتلهم ببطء، في واحدة من أبشع صور العقاب الجماعي في التاريخ الحديث.
المرحلة المقبلة ستحدد ما إذا كان العالم سيتحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أم سيترك غزة تغرق أكثر في بحر الجوع واليأس، وحتى ذلك الحين، يبقى السؤال المعلق: هل سيستيقظ الضمير الإنساني قبل فوات الأوان؟