الوقت- في مشهد ثقافي وسياسي متشابك، يطلّ على الجمهور فيلم جديد يحمل عنوان "فلسطين 36"، وهو عمل سينمائي يتناول الثورة الفلسطينية ضد الحكم الاستعماري البريطاني، الفيلم لا يقتصر على سرد وقائع تاريخية حدثت في ثلاثينيات القرن الماضي، بل يسعى إلى إعادة قراءة تلك المرحلة من زاوية فنية، تربط بين الماضي والحاضر، وتفتح نقاشاً أوسع حول دور السينما في تشكيل الوعي الوطني والقومي.
الفيلم، كما يبدو من عنوانه، يحيل مباشرة إلى العام 1936، وهو العام الذي شهد اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى ضد سلطات الانتداب البريطاني، تلك الثورة التي شكّلت منعطفاً في تاريخ فلسطين الحديث، وأسست لمرحلة جديدة من الصراع مع المشروع الاستعماري الذي لم يكن محصوراً بالانتداب فحسب، بل ارتبط أيضاً بالهجرة الصهيونية المنظمة التي كانت تحظى بدعم بريطاني مباشر.
بين التوثيق والإبداع الفني
واحدة من أبرز نقاط القوة في "فلسطين 36" هي محاولته الجمع بين السرد التاريخي والتعبير الفني، فهو لا يقدّم مجرد شريط وثائقي يعتمد على الصور والحقائق الجامدة، بل يدمج بين الحكاية السينمائية وأسلوب الإخراج الفني الذي يتيح للمتلقي التفاعل مع الأحداث وكأنها تجري أمامه الآن.
من خلال هذا المزج، يضع الفيلم المشاهد في قلب المواجهة: كيف كان الفلسطيني البسيط يعيش تحت قسوة الاحتلال البريطاني؟ وكيف تشكّلت ملامح المقاومة الشعبية من الفلاحين والعمال والطلاب؟ وكيف تحولت المطالب بالحقوق السياسية إلى ثورة مسلحة استمرت ثلاث سنوات وأربكت الإدارة الاستعمارية؟
إعادة الاعتبار لثورة منسية
الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 كثيراً ما يتم تجاوزها في الذاكرة العربية العامة، إذ تطغى أحداث النكبة 1948 أو حروب لاحقة على الوعي الجمعي، لكن الفيلم يعيد الاعتبار إلى تلك اللحظة المفصلية، مذكراً بأن جذور الصراع لم تبدأ مع قيام "إسرائيل" عام 1948، بل قبل ذلك بسنوات طويلة.
يعرض الفيلم مشاهد تُظهر كيف واجه الفلسطينيون سياسات المصادرة البريطانية، وكيف نظموا الإضراب العام الذي استمر ستة أشهر، وهو الأطول في التاريخ الحديث للمنطقة، كما يبرز التضحيات الجسام التي قدمها الشعب الفلسطيني، حيث استشهد الآلاف وجُرح عشرات الآلاف خلال قمع الانتداب للثورة.
البعد السياسي للعرض السينمائي
لا يمكن النظر إلى "فلسطين 36" كعمل فني محض، بل هو أيضاً رسالة سياسية موجهة إلى الحاضر. فإعادة تسليط الضوء على تلك الثورة يوازي محاولة لمواجهة روايات الاحتلال الإسرائيلي التي تسعى لتصوير الفلسطينيين كضحايا بلا مقاومة أو إرادة.
إن الفيلم، من خلال لغته البصرية، يقدّم تفنيداً عملياً لهذه الروايات، مؤكداً أن الفلسطينيين كانوا منذ البداية شعباً يقاوم الاحتلال بكل أشكاله، ولعلّ قوة الفيلم تكمن في أنه يخاطب الأجيال الجديدة التي ربما لم تسمع كثيراً عن أحداث 1936، في حين يشكّل مرجعاً ثقافياً وسياسياً يعزز الذاكرة الجمعية.
السينما كجبهة نضال
منذ عقود طويلة، كانت السينما واحدة من أهم أدوات النضال الثقافي والسياسي في العالم، وقد شهدنا كيف تحولت الأفلام إلى منصات لمواجهة الاستعمار والديكتاتورية في بلدان متعددة من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
"فلسطين 36" يندرج ضمن هذا السياق، حيث يستخدم الفن السابع كسلاح لمواجهة محاولات طمس التاريخ، فالتجربة الفلسطينية، التي كثيراً ما تُشوَّه في الإعلام الغربي، تجد في السينما فرصة لتقديم روايتها الأصلية، بلغة فنية قادرة على اختراق الحدود والوصول إلى جمهور عالمي.
صدى الفيلم عربياً ودولياً
من المتوقع أن يحظى الفيلم باهتمام واسع في الأوساط الثقافية العربية والدولية، فالقضية الفلسطينية لا تزال تحظى بتعاطف عالمي كبير، لكن هذا التعاطف يحتاج دائماً إلى تغذية معرفية ووجدانية، وهنا يبرز دور الفيلم في إعادة طرح الأسئلة: ما الذي تغيّر منذ 1936؟ وما الذي بقي على حاله؟
فعلى الرغم من مرور نحو تسعة عقود، لا تزال فلسطين تعيش تحت الاحتلال، وإن تغيّرت أشكاله وأدواته، ولا يزال الشعب الفلسطيني يناضل من أجل حقه في الحرية والاستقلال، وهكذا يصبح الفيلم مرآة تعكس الاستمرارية بين الماضي والحاضر، وتذكّر بأن التاريخ لم ينته بعد.
البعد الثقافي والهوياتي
لا ينحصر أثر الفيلم في الجانب السياسي فقط، بل يمتد أيضاً إلى البعد الثقافي والهوياتي، فهو يؤكد أن الذاكرة ليست مجرد مادة للأرشيف، بل هي عنصر أساسي في تشكيل الهوية الوطنية، إن عرض أحداث 1936 سينمائياً يعزز شعور الانتماء، ويجعل من الثورة حدثاً حيّاً يعيش في وجدان الأجيال الجديدة.
ومن هنا، يمكن القول إن "فلسطين 36" ليس مجرد عمل سينمائي، بل هو مشروع ثقافي-هوياتي يسعى لتثبيت الرواية الفلسطينية في مواجهة محاولات التزوير والنسيان.
في النهاية، يمكن القول إن فيلم "فلسطين 36" يشكّل إضافة نوعية إلى المشهد السينمائي العربي والفلسطيني، ليس فقط لأنه يعيد إحياء حدث تاريخي مهم، بل لأنه يربط الماضي بالحاضر ويطرح أسئلة جوهرية حول معنى المقاومة، ودور الثقافة في مواجهة الاستعمار، وأهمية الذاكرة في صون الهوية.
إنه فيلم يذكّر بأن الفلسطينيين لم يكونوا يوماً متفرجين على مصيرهم، بل كانوا دائماً في قلب الفعل، وأن السينما، مثلها مثل البندقية والقلم، يمكن أن تكون جبهة من جبهات النضال.
وبهذا، فإن "فلسطين 36" يتجاوز كونه شريطاً سينمائياً إلى أن يصبح نصاً سياسياً وثقافياً، يعيد طرح الحكاية الفلسطينية على العالم، بلغة الفن وقوة الصورة وصدق التاريخ.
