الوقت – حينما وضع هاري إس. ترومان، رئيس الولايات المتحدة بصمته على وثيقة قانونية في غرة أغسطس عام 1949 مؤسّساً وزارة الدفاع من أنقاض وزارة الحرب، لم يكن يفصل العالم سوى ستة عشر يوماً عن صدمة إثبات الاتحاد السوفييتي قدرته على تفجير سلاح نووي، بينما كان ماو تسي تونغ يتأهب على مشارف إعلان جمهورية الصين الشعبية التي لم تكن تبعد سوى شهرين.
يروي ديفيد سانجر، صاحب العمود الشهير في نيويورك تايمز، أن تلك الحقبة كانت تغشاها ظلال الخوف في النفوس الأمريكية، وكان المسمى الجديد للوزارة يُراد له أن يعكس عصراً أضحى فيه الردع ركيزة الوجود، إذ لو اندلعت شرارة حرب بين القوى العظمى، لكان في مقدورها أن تحيل كوكب الأرض إلى رمادٍ تذروه الرياح.
وعلى امتداد عقود متتالية، لاحت في الأفق فرص ضئيلة لتفادي هذا الصدام النووي أو المواجهة المباشرة بين الجبابرة، ولهذا يذهب كثير من مؤرخي تلك الحقبة إلى أن أعظم ما حققته الحرب الباردة، رغم نيران حربي كوريا وفيتنام، وأزمة الصواريخ الكوبية، وما تلاها من سباقات محمومة للتسلح، أنها ظلت في جوهرها باردةً لم تشتعل.
كل هذا يضفي على المرسوم التنفيذي الذي أصدره الرئيس ترامب يوم الجمعة الماضي لإعادة الاسم العتيق للبنتاغون - “وزارة الحرب” - أبعاداً تتجاوز مجرد عودة رمزية أو استعراض للعضلات.
ففي زمنٍ غدت فيه قدرة الردع في ميادين شتى كالفضاء الإلكتروني والفضاء الخارجي، وفي عالم تتباهى فيه روسيا والصين بشراكة متقلبة لتقويض الهيمنة الأمريكية، أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، يتبنى ترامب فكرة أن الخلاص يكمن في العودة إلى “الأيام الخوالي المجيدة”.
حيث صرح يوم الجمعة المنصرم بقناعته أن إعادة لفظة “حرب” إلى مسمى الوزارة، وهو ما قد يستلزم مباركة الكونغرس، “تسمية أكثر ملاءمةً، ولا سيما في ضوء المشهد العالمي الراهن بتعقيداته”.
لم يكن مرسوم الرئيس الأمريکي مثار دهشة لأي متتبع لثورة الأشهر السبعة المنصرمة في أركان الأمن القومي للبلاد، يقول دوغلاس لوت، الضابط المخضرم في الجيش الذي تبوأ مكانةً محوريةً في مجالس الأمن القومي لإدارتي بوش وأوباما وتقلّد منصب سفير الولايات المتحدة لدى حلف الناتو: “من زاوية معينة، الأمر في غاية المنطقية: هذه الإدارة تعيدنا ببساطة إلى حقبة ما قبل عصر ترومان، لقد قوّضوا أركان العمليات والمؤسسات والأعراف التي شُيدت بعد الحرب العالمية الثانية”.
وأردف قائلاً: “ما يفوق أهمية تغيير الاسم هو جملة الإجراءات التي اتخذوها”، مشيراً إلى تزعزع ثقة حلفاء أمريكا في مدى استعداد الولايات المتحدة للذود عنهم فعلياً، وكذلك تحولات ترامب الجذرية في التعامل مع روسيا، “حين تتآكل الثقة التي تعمل كصمغ يمسك بنيان التحالف، سنؤدي ثمناً باهظاً لاستعادتها، هذا إن كان في الإمكان استردادها أصلاً”.
لا مراء في أن ترامب أبدى في الأشهر الأخيرة ميلاً أقل لبناء منظومة الردع مقارنةً بشغفه بالاستثمار في ترسانة أسلحة جديدة، فقد حلّ أجزاءً واسعةً من وكالة الأمن السيبراني والبنية التحتية (التابعة لوزارة الأمن الداخلي)، التي كانت منوطةً بصدّ الهجمات السيبرانية الخارجية والداخلية، بما في ذلك حماية أنظمة الانتخابات، بل تجاوز ذلك إلى إصدار أوامره لوزارة العدل بفتح تحقيق مع رئيس هذه الوكالة إبان انتخابات 2020 لجرأته على إعلان أن تلك الانتخابات كانت “واحدةً من أكثر الانتخابات أماناً في سجل التاريخ”، ما يناقض مزاعمه بوجود تزوير لإعلاء كفة جو بايدن.
کما أطاح ترامب بجنرال من فئة النجوم الأربع كان يتولى زمام وكالة الأمن القومي وقيادة الفضاء السيبراني الأمريكية في آن واحد، في خطوةٍ تمثّل جزءاً من تطهير شامل للضباط غير المسيسين الذين تبوؤوا مناصبهم خلال فترة بايدن، وقد أصاب الوهن الروح المعنوية بين صفوف كبار الضباط، إذ باتوا يتساءلون عن جدوى السعي للوصول إلى قمة الهرم القيادي، في وقتٍ يكفي فيه تعليق عابر من شخصية مؤثرة في جناح “ماغا” تصفهم بأنهم أذرع خفية لـ"الدولة العميقة"، ليطوي صفحة مسيرةٍ مهنية امتدت لثلاثة عقود.
أما استثمار ترامب الأبرز في مجال الدفاع فهو “القبة الذهبية” - مشروعه الطموح لبناء نظام دفاع صاروخي يمتد من الساحل إلى الساحل، غير أن هذا النظام، الذي يتضمن نشر أسلحة مضادة للصواريخ في أعالي الفضاء، يبدو في عيون أعداء أمريكا أقرب إلى الهجوم منه إلى الدفاع.
في مسألة تغيير اسم الوزارة، لا أحد يضاهي بيت هيغست، وزير الدفاع، في حماسته المتقدة. فإذا ظفر ترامب بمبتغاه، سيتوشّح هيغست بلقب “وزير الحرب”، وهو اللقب الذي سبق أن ناداه به الرئيس على الملأ، وسينضم إلى سلسلة عريقة تبدأ بهنري نوكس، الذي تشرفت قلعة فورت نوكس بحمل اسمه.
صرح هيغست يوم الأربعاء على منبر فوكس نيوز: “لقد حسمنا الحرب العالمية الأولى وأحرزنا النصر في الحرب العالمية الثانية، ليس تحت راية وزارة الدفاع، بل تحت راية وزارة الحرب، وكما أشار الرئيس، نحن لا نكتفي بالدفاع، بل نمضي للهجوم”، وختم قائلاً: “نؤمن بأن للكلمات والأسماء والألقاب وزنها ومغزاها”، من الواضح أنه يعتنق هذه القناعة، فقد تحدث هيغست مراراً عن إعادة “الفتك” و"روح المحارب" إلى صفوف الجيش الأمريكي، وحين وطئت قدماه عتبة البنتاغون، كان من أوائل قراراته حظر عبارةٍ طالما ترددت أصداؤها في أرجاء المبنى: “تنوعنا هو مكمن قوتنا”.
بيد أن الكلمات تحمل أيضاً ثقلها للدول الأخرى، حليفةً كانت أم خصماً، وهذا التحول في المسمى، إذا ما رغب الكونغرس في إعادة صياغة تشريعات حقبة ترومان، سيصبّ الزيت على نار الروايات التي تروّج لها روسيا والصين عن الولايات المتحدة.
في سرديتهما، كل ما تتشدّق به أمريكا حول عشقها للسلام والتزامها بالقانون الدولي، ليس سوى قناع رقيق يخفي وراءه دولةً تتحرّق شوقاً في الحقيقة لمهاجمة أي هدف تتوهمه تهديداً، ولتدعيم هذه الرواية، يشير معلقوهما الرسميون إلى قرارات ترامب الأحادية: كالغارة على المنشآت النووية الإيرانية في يونيو، أو إغراق زورق صغير يشتبه في تهريبه للمخدرات وإزهاق أرواح أحد عشر شخصاً قبالة سواحل فنزويلا.
يقول آر نيكولاس بيرنز، السفير الأمريكي السابق لدى الصين والدبلوماسي المخضرم في وزارة الخارجية الذي تقلّد أيضاً منصب سفير الولايات المتحدة لدى الناتو: “هذا القرار يخدم بامتياز سردية الصين في صراعها المحموم مع أمريكا على بسط النفوذ العالمي، ستقدّم بكين هذا التحول، رغم جور هذا التصور، كبرهان ساطع على أن أمريكا تمثّل تهديداً للنظام الدولي وأن الصين هي الحارسة الأمينة للسلام”.
قد يمنح ترامب وهيغست فرصةً ذهبيةً مماثلةً لفلاديمير بوتين، رئيس روسيا، فقد أصر بوتين، قبل زمن طويل من غزوه لأوكرانيا في 2022، على أن “جذور” عزمه على استعادة بعض حدود الإمبراطورية الروسية العريقة، تضرب في محاولات أمريكا لمدّ أذرع الناتو إلى تخوم روسيا في تسعينيات القرن الماضي، وكان رد الغرب الثابت هو أن وجود الناتو، لا يتعدى كونه درعاً دفاعياً محضاً.
لكن حين تجاهر الولايات المتحدة بسأمها من تقمّص الدور الدفاعي، كما صرح الرئيس ووزير الدفاع مراراً في الأسابيع الأخيرة، تتداعى أركان هذه الحجة، بالنسبة لهم، تمثّل إعادة وزارة الحرب إشارةً جليةً إلى أن “شريفاً جديداً” قد حلّ بالمدينة، يحمل رؤيةً مغايرةً لتوظيف القوة.
قال هيغست يوم الجمعة في المكتب البيضاوي: “سنتخذ مسار الهجوم، لا مجرد الدفاع، أقصى درجات الفتك، لا قانون واهن”، وأضاف: “نحن نصقل محاربين، لا مجرد مدافعين”.
على صعيد معين، ما يقوم به ترامب وهيغست لا يتجاوز تغيير العلامة التجارية، وهو مفهوم يتقنه الرئيس الأمريکي إتقاناً تاماً، كما فعل حين غيّر أسماء مشاريعه العقارية لتحقيق رواجٍ أوفر بواجهات أكثر جاذبيةً، لن تشهد مهمة الجيش والبحرية والقوات الجوية ومشاة البحرية تحولاً جذرياً، ولن يطرأ تغيير على مزيج المهام الدفاعية والهجومية في الوحدات التي تقف على ثغور التقنيات المستحدثة، مثل القيادة السيبرانية الأمريكية أو قيادة الفضاء المحببة لقلب ترامب.
غير أنه على صعيد آخر، سيُنظر إلى تبديل اسم أعتى قوة عسكرية في العالم بميزانية دفاعية تناهز التريليون دولار (ولعل الأدق تسميتها ميزانية حرب)، وهي ما يقارب ثلاثة أضعاف ميزانية الصين، على أنه حلقة في سلسلة “ثورة ترامب” المتواصلة.
في ذلك العالم الجديد، تُنحى القوة الناعمة الأمريكية جانباً، ويُحتفى بالقوة الصلبة احتفاءً صاخباً، إن إسدال الستار على الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، وإخراس صوت أمريكا وإذاعة آسيا الحرة، وتقليص مليارات الدولارات من المساعدات الخارجية في ميزانية وزارة الخارجية، يبعث برسالة لا لبس فيها: الولايات المتحدة نضّت عن كاهلها عباءة تعزيز الديمقراطية، ولم تعد تُحسب في عداد الدول المحسنة.
أظهر ترامب وحاشيته بجلاء أنهم لا يرون في القوة الناعمة سوى سرابٍ لا وجود له، فقد رحّب ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريکي، هذا الأسبوع بابتهاج بتخليه عن أحد مناصبه الحكومية الأربعة، رئاسة USAID، لمصلحة راسل تي ووت، مدير مكتب الإدارة والميزانية، كتب روبيو: “راسل الآن على رأس عمله للإشراف على إسدال الستار على وكالة حادت عن مسارها منذ أمد بعيد، تهانينا الحارة، راسل”.
وكما كشفت تصريحات روبيو بوضوح، فإن هذه البرامج، التي كانت في يوم من الأيام حجر الزاوية لاستمالة العالم نحو القيم الأمريكية، أضحت اليوم في نظرهم شيئاً بين عملٍ خيري يستنزف الخزانة، وبذخٍ لا صلة له بالمصالح الأمريكية الجوهرية.