الوقت- في ظل استمرار الحصار الخانق المفروض على قطاع غزة منذ أكثر من 18 عامًا، يشهد العالم حدثًا استثنائيًا يتمثل في انطلاق "الأسطول العالمي الصمود"، وهو أضخم تحرك بحري دولي يهدف إلى كسر الحصار الإسرائيلي وإيصال رسالة تضامن مع الشعب الفلسطيني المحاصر، هذا الحدث لا يقتصر فقط على البعد الإنساني، بل يشكل تحديًا سياسيًا وعسكريًا غير مسبوق أمام الاحتلال الإسرائيلي الذي يعيش حالة ارتباك داخلي متفاقمة نتيجة فشله في إدارة ملف الحرب والأسرى.
الأسطول العالمي «الصمود»: تحالف إنساني لكسر الحصار
أعلن القائمون على الأسطول العالمي الصمود أن نحو 70 سفينة من عدة دول ستبحر باتجاه قطاع غزة، في خطوة تهدف إلى تحدي الحصار الإسرائيلي المفروض على مليوني إنسان، وقد بدأ الإبحار من ميناء برشلونة الإسباني في 31 أغسطس، ومن ميناء تونس في 4 سبتمبر، بمشاركة واسعة من منظمات دولية وحركات تضامنية مثل: «الحركة العالمية إلى غزة»، «مقاتلو أسطول الحرية»، «الأسطول المغربي الصمود»، و«مبادرة أسطول شرق آسيا».
السفن المشاركة تحمل على متنها ناشطين من خلفيات متعددة: برلمانيين، محامين، صحفيين، نشطاء بيئيين، نقابيين، إضافة إلى ممثلين عن منظمات إنسانية، والهدف المعلن هو إيصال مساعدات إنسانية رمزية، أبرزها الأدوية وحليب الأطفال والمواد الغذائية الأساسية، وفي الوقت نفسه فضح الجرائم الإسرائيلية بحق المدنيين، وكشف للعالم حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون في غزة.
تصريحات منظمي الأسطول: المجاعة في غزة «مصطنعة»
أكد المتحدث باسم الأسطول العالمي أن المجاعة في غزة ليست كارثة طبيعية، بل مجاعة مصطنعة ناتجة عن سياسات الاحتلال الذي يتعمد منع دخول الغذاء والدواء، ويستخدم التجويع كسلاح حرب. وأضاف: «إننا نسعى إلى إطلاق حركة تضامن عالمية حقيقية مع الشعب الفلسطيني، حركة تتجاوز بيانات الإدانة والشعارات الفارغة إلى فعل مباشر ضد الاحتلال».
كما كشف أحد أعضاء اللجنة القيادية للأسطول أن نحو 30 ألف شخص من مختلف أنحاء العالم انضموا إلى المبادرة، مؤكدًا أنه لا يمكن السكوت أمام ما وصفه بـ «جرائم الإبادة الجماعية» التي يرتكبها الاحتلال في غزة.
وجاء في بيان صادر عن اللجنة المنظمة: «نحن نتحرك اليوم لإنهاء الموت والجوع في غزة، ولإنهاء الاستعمار الصهيوني لفلسطين، أي هجوم علينا سيُعتبر جريمة حرب بموجب القانون الدولي».
تجارب سابقة: حنظلة ومادلين في مواجهة القرصنة الإسرائيلية
ليست هذه المرة الأولى التي يحاول فيها نشطاء عالميون كسر حصار غزة، فقد شهدت السنوات الماضية عدة محاولات أبرزها:
سفينة حنظلة: أبحرت في يونيو 2025 من إيطاليا نحو غزة، حاملة 21 ناشطًا من 12 دولة، لكن البحرية الإسرائيلية اعترضتها في المياه الدولية على بُعد 40 ميلًا من شواطئ غزة، واحتجزت ركابها ونقلتهم إلى ميناء أشدود.
سفينة مادلين: سبقت حنظلة، وكانت تحمل مساعدات إنسانية أساسية بينها حليب الأطفال وأدوية وأغذية، إضافة إلى ناشطين بارزين مثل غريتا تونبرغ وريما حسان، لكن الجيش الإسرائيلي هاجم السفينة على بعد 100 ميل من غزة، وصادر حمولتها، واعتقل من كانوا على متنها قبل أن يفرج عن بعضهم لاحقًا.
هذه السوابق تؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي يتعامل مع أي محاولة دولية لكسر الحصار باعتبارها «تهديدًا أمنيًا»، ويستخدم القوة العسكرية ضد المدنيين العُزّل، في خرق واضح للقانون الدولي ولقواعد الملاحة البحرية.
قلق إسرائيلي متصاعد: اجتماع طارئ للكابنيت
بالتزامن مع التحرك البحري الضخم، كشفت صحيفة «معاريف» العبرية أن المجلس الوزاري الأمني الإسرائيلي المصغر (الكابنيت) عقد جلسة طارئة لمناقشة التطورات، وأشارت الصحيفة إلى أن جدول أعمال الاجتماع اقتصر على ملف الحرب في غزة وسبل التعامل مع الأسطول البحري، بينما تم استبعاد ملف تبادل الأسرى من المناقشة.
هذا القرار يعكس حجم القلق الإسرائيلي من التحرك الدولي الجديد، إذ إن الأسطول الصامد يُعتبر الأكبر من نوعه منذ بدء الحصار، ما قد يُشكل تحديًا سياسيًا كبيرًا لـ"إسرائيل"، التي تخشى من تداعيات فشلها في منعه أو التعامل معه.
غياب ملف الأسرى: خلافات داخلية إسرائيلية
أفادت «معاريف» بأن الكابنيت ركز على وضع خطة زمنية وعسكرية لإدارة الحرب ونشر القوات في غزة، متجاهلًا قضية الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية، ورغم أن بعض المسؤولين طرحوا فكرة تبادل الأسرى، إلا أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو رفض إدراج هذا الملف على جدول أعمال الاجتماع.
هذا التجاهل أثار انتقادات شديدة داخل "إسرائيل"، حيث صعّد معارضو نتنياهو هجومهم عليه، فقد صرح أفيغدور ليبرمان، وزير الحرب الأسبق وزعيم حزب «إسرائيل بيتنا»، بأن استمرار نتنياهو في قيادة الحكومة «يعني نهاية إسرائيل كدولة يهودية صهيونية ديمقراطية»، داعيًا إلى منعه من تشكيل أي حكومة مستقبلية.
بين الأسطول الصامد والارتباك الإسرائيلي
إن تزامن تحرك الأسطول الدولي مع الخلافات الداخلية في "إسرائيل" يعكس مشهدًا متناقضًا:
من جهة، هناك حراك شعبي عالمي متضامن مع غزة يفضح سياسات الاحتلال ويضعه أمام ضغط سياسي وأخلاقي متزايد.
ومن جهة أخرى، هناك حكومة إسرائيلية مأزومة عاجزة عن إدارة الملفات الحساسة، سواء في ما يتعلق بالحرب المستمرة، أو قضية الأسرى، أو مواجهة الانتقادات الدولية.
هذا التناقض يجعل "إسرائيل" أكثر عرضة للانكشاف أمام المجتمع الدولي، وخصوصًا أن أي اعتداء على الناشطين الدوليين ضمن الأسطول قد يُعتبر جريمة حرب، ويؤدي إلى مزيد من العزلة السياسية والقانونية.
الدلالات السياسية والإنسانية للتحرك
تدويل قضية غزة: مشاركة ناشطين من مختلف القارات يعطي بعدًا عالميًا للقضية الفلسطينية، ويحولها من نزاع محلي أو إقليمي إلى قضية إنسانية كونية.
إحراج "إسرائيل" دوليًا: استمرار "إسرائيل" في اعتراض السفن المدنية في المياه الدولية يفضح ازدواجية المعايير الغربية، ويكشف عن انتهاك صارخ للقانون الدولي.
إعادة إحياء حركة التضامن: الأسطول الجديد يعيد الزخم لحركات المقاومة السلمية التي تتحدى الاحتلال عبر أدوات مدنية، بعد سنوات من تراجع النشاط الشعبي الدولي.
ضغط على الحكومات الغربية: المشاركة الواسعة قد تجبر بعض الحكومات على إعادة النظر في مواقفها المتواطئة مع الاحتلال.
الصمود يتحدى الاحتلال
إن انطلاق الأسطول العالمي الصمود يشكل محطة فارقة في مسار كسر الحصار عن غزة، فهو ليس مجرد تحرك إنساني لإيصال المساعدات، بل رسالة سياسية قوية تقول إن العالم لم يعد قادرًا على الصمت أمام الإبادة الجماعية التي تُمارس ضد الفلسطينيين.
في المقابل، تكشف ردود الفعل الإسرائيلية المرتبكة عن أزمة داخلية عميقة يعيشها الكيان، حيث تعجز قيادته عن التوفيق بين أولوياتها العسكرية، ومطالب الرأي العام بشأن الأسرى، وضغوط المجتمع الدولي الآخذة في التصاعد.
وبينما يمضي الأسطول في رحلته متحديًا تهديدات الاحتلال، يبقى السؤال: هل سيصمد العالم هذه المرة في وجه القرصنة الإسرائيلية، أم سيُسجل التاريخ جولة جديدة من جرائم الاحتلال ضد المدنيين؟