الوقت- منذ اندلاع الحرب الدامية على غزة، لم تكن المجازر والقصف العشوائي وحدها هي أدوات "إسرائيل" في معركتها، بل برز سلاح آخر لا يقل خطورة: التعتيم الإعلامي، ففي الوقت الذي تسقط فيه آلاف الضحايا من المدنيين الفلسطينيين، تُمنع الكاميرات من الدخول إلى القطاع، ويُستهدف الصحفيون بشكل مباشر، حتى تحوّلت غزة إلى "منطقة مظلمة" إعلامياً، لا يظهر منها سوى ما تسمح به سلطات الاحتلال أو ما يصل عبر هواتف الناجين.
وفي افتتاحية بعنوان "ماذا تريد إسرائيل أن تخفي بفرضها التعتيم على غزة؟"، قالت صحيفة لوموند الفرنسية إن الحرب الإسرائيلية لم تحصد أرواح الفلسطينيين فقط، بل امتدت لتصيب "الحق الأساسي في الإعلام" نفسه، هذا التوصيف يعكس جوهر الأزمة: لم يعد التعتيم الإعلامي مجرد أداة ثانوية، بل أصبح سياسة منهجية تهدف إلى طمس الحقيقة وتجريد الضحايا من القدرة على إيصال صوتهم إلى العالم.
حصار إعلامي غير مسبوق
تشير لوموند إلى أن السلطات الإسرائيلية تمنع منذ نحو عامين الصحافة الدولية من دخول قطاع غزة بشكل حر، في سابقة لم يشهدها الإقليم رغم اعتياده على ويلات الحروب، هذا الحصار الإعلامي لا يليق بدولة تدّعي أنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، فالحق في الإعلام جزء أساسي من حقوق الإنسان، ومنعه يُشكّل انتهاكاً صارخاً للمواثيق الدولية، وخصوصاً أن اتفاقية الشراكة التجارية بين الاتحاد الأوروبي و"إسرائيل" تنص صراحة على أن احترام حقوق الإنسان شرط جوهري في العلاقات الثنائية.
لكن اللافت أن هذا الوضع جرى قبوله بصمت من قِبل الغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة، التي ترفع دوماً شعارات الدفاع عن الحريات، لم تُصدر إدارة بايدن أي مطلب جدي لفتح غزة أمام الصحافة الدولية، رغم أن التعتيم الإعلامي يُعيد إلى الأذهان ممارسات أسوأ الأنظمة الشمولية في العالم.
استهداف الصحفيين: إعدام للحقيقة
واحدة من أخطر النقاط التي تثيرها لوموند هي أن الحرب على غزة أصبحت الأكثر دموية ضد الصحافة في تاريخ النزاعات، أكثر من 200 صحفي قُتلوا حتى الآن، معظمهم فلسطينيون، هذا الرقم غير مسبوق، لم يسجّل التاريخ مثيلاً له حتى في أكثر النزاعات وحشية.
الصحفيون في غزة لم يسقطوا لوحدهم فقط، بعضهم قُتل في غارات عشوائية طالت منازلهم مع عائلاتهم، وآخرون قضوا أثناء تغطيتهم المباشرة للقصف رغم المخاطر، لكن الأخطر أن هناك صحفيين استُهدفوا بشكل متعمد، كما حدث مع إعلاميين يعملون لمصلحة مؤسسات دولية قُتلوا في أغسطس 2024، رغم أن مواقعهم كانت معروفة وموثقة.
إن استهداف الصحفيين بهذا الشكل ليس مجرد "أضرار جانبية"، بل هو رسالة واضحة: "لا نريد شهوداً على الجرائم".
استراتيجية نزع الشرعية
تلفت الصحيفة الفرنسية إلى أن "إسرائيل" لا تكتفي بمنع الصحافة الدولية من الدخول، بل تسعى إلى تجريد الصوت الفلسطيني من الشرعية عبر اتهامه الدائم بالارتباط بحركة حماس، كل صحفي فلسطيني يُقدّم صورة من قلب المأساة يصبح في نظر الاحتلال "متحدثاً باسم حماس"، في محاولة مكشوفة لاغتيال مصداقية روايته.
هذه الاستراتيجية تحقق هدفين في آن واحد:
تشويه صورة الإعلام الفلسطيني وإظهاره كأداة دعائية لا أكثر.
تبرير استهداف الصحفيين، باعتبارهم جزءاً من "البنية التحتية لحماس"، وهو ما يفتح الباب لقتلهم دون مساءلة.
الصمت الغربي: شراكة في الجريمة
ما كان لهذه السياسات أن تستمر لولا الصمت الغربي المريب، فبينما تتشدق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالدفاع عن حرية الإعلام وحقوق الإنسان، فإنهما لم يحرّكا ساكناً أمام هذه الانتهاكات الفاضحة، بل على العكس، كانت واشنطن تمد "إسرائيل" بالسلاح والذخيرة على مدار الساعة، وتمنحها الغطاء السياسي في مجلس الأمن.
هكذا، لا يمكن وصف هذا الصمت إلا بالشراكة غير المباشرة في الجريمة، فالسكوت عن التعتيم الإعلامي، بل التصفيق لسياسات نتنياهو، جعل من الإبادة الجماعية في غزة جريمة تُرتكب على مرأى العالم، لكن بلا كاميرات حرة تنقل الصورة كاملة.
ماذا تريد "إسرائيل" أن تخفي؟
السؤال الجوهري الذي طرحته لوموند في افتتاحيتها هو: ماذا تريد "إسرائيل" أن تُخفي عن العالم؟
الإجابة تبدو واضحة:
الدمار الهائل الذي حوّل غزة إلى أنقاض.
المجازر بحق المدنيين، حيث تشكّل النساء والأطفال الغالبية العظمى من الضحايا.
المجاعة المتعمدة التي حذّر منها خبراء الأمم المتحدة نتيجة منع المساعدات.
الانتهاكات بحق الأسرى والتعذيب الموثّق في السجون والمعسكرات.
لو فُتحت غزة أمام الصحافة الدولية بحرية، لكان العالم شاهداً مباشراً على واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية في العصر الحديث.
الإعلام كجبهة حرب
لا يخفى أن المعركة اليوم لم تعد عسكرية فقط، بل إعلامية أيضاً، فـ"إسرائيل" تدرك أن الرواية التي تسيطر على الفضاء الإعلامي هي التي تحدد في النهاية صورة الصراع لدى الرأي العام الغربي، لذلك، هي تستثمر في شيطنة كل صوت فلسطيني وربطه بـ"الإرهاب"، بينما تلمّع صورتها كضحية تدافع عن نفسها.
هذا ما يفسّر لماذا باتت الصحافة في غزة تُعامل كعدو، ولماذا تحوّل القلم والكاميرا إلى "سلاح أخطر" على الاحتلال من الصواريخ.
لوموند ورسالة إلى الغرب
ما يميز افتتاحية لوموند أنها لم تكتفِ بتشخيص الواقع، بل حمّلت الغرب مسؤولية مباشرة، الصحيفة شددت على أن الصمت الغربي المعيب هو ما سهّل على "إسرائيل" تجاوز الخطوط الحمراء، كما دعت إلى مطلبين أساسيين يجب أن يكونا جزءاً من أي تسوية أو مبادرة:
- حماية الصحفيين في أداء مهامهم الإعلامية، مهما كانت الجهة التي يعملون لمصلحتها.
- فتح غزة أمام الصحافة الدولية، كي تنقل الحقيقة بعيداً عن رقابة الاحتلال.
بل ذهبت أبعد من ذلك بالقول إن على الحكومات الغربية أن توجه رسالة واضحة لـ"إسرائيل": الاستمرار في هذا النهج ستكون له تكلفة سياسية ودبلوماسية.
الصحافة كأداة مقاومة
رغم كل هذا التعتيم، تظل الصور والقصص الخارجة من غزة، عبر صحفيين محليين أو حتى مواطنين عاديين، بمثابة شهادة على ما يحدث، هذه الصور التي تصل إلى هواتف الملايين حول العالم تحطّم رواية الاحتلال، وتفضح ازدواجية المعايير الغربية.
ولذلك، يمكن القول إن الصحافة الفلسطينية، حتى وهي تحت القصف، أصبحت جزءاً من المقاومة نفسها، تقاوم بالرواية كما يقاوم المقاتلون بالسلاح.
ختام القول: التعتيم الإعلامي جريمة لا تقل عن القصف
إن التعتيم الإعلامي الذي تفرضه "إسرائيل" على غزة ليس مجرد إجراء أمني، بل سياسة ممنهجة لإخفاء معالم جريمة الإبادة الجماعية، وما لم يتحرك الغرب لإدانة هذه الممارسات وفرض فتح المجال أمام الإعلام الحر، فإن صمته سيظل وصمة عار تلاحق شعاراته عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
فالذي يُقتل في غزة اليوم ليس فقط الإنسان الفلسطيني، بل أيضاً الحقيقة نفسها.