الوقت-في تطور جديد يعكس عمق الأزمة المعلوماتية التي تواجهها "إسرائيل" في اليمن، فشلت محاولات الاحتلال في تنفيذ عملية اغتيال استهدفت قيادات بارزة في جماعة أنصار الله (الحوثيين)، كان أبرزها الهجوم الذي أعلن أنه استهدف رئيس أركان الجيش اليمني اللواء محمد عبدالكريم الغماري.
وقد أعلنت وسائل الإعلام العبرية بداية أن العملية نجحت، مستهدفة اجتماعاً لعدد من كبار القادة العسكريين والسياسيين في صنعاء، لكن المصادر الرسمية اليمنية سارعت إلى نفي هذه الادعاءات، مؤكدة أن القيادة العسكرية والسياسية ما زالت على رأس عملها دون أي إصابات تذكر.
يعكس هذا الفشل تكرار إخفاقات الاحتلال في اليمن، حيث سبق أن باءت محاولات سابقة للإغتيال بالفشل أيضًا، ما يظهر حجم التحديات التي تواجه أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بعيدًا عن الأراضي التي اعتادت على العمل فيها مثل لبنان وغزة، ويشير الخبراء إلى أن هذه الإخفاقات ليست مجرد أخطاء تكتيكية، بل تعكس أزمة استراتيجية طويلة الأمد في فهم البيئة اليمنية وقدرة "إسرائيل" على جمع المعلومات الدقيقة.
الجغرافيا اليمنية كعامل حماية طبيعي
تمثل الطبيعة الجغرافية لليمن أحد أبرز العوامل التي تعيق فعالية العمليات الإسرائيلية، فالمناطق الجبلية الشاسعة والوديان العميقة توفر غطاءً طبيعيًا للقادة العسكريين والسياسيين، ما يجعل من الصعب على الطائرات المسيرة أو الأقمار الصناعية رصد تحركات القيادات أو مواقع الاجتماعات السرية.
وقد أشارت مصادر مطلعة إلى أن هذه الطبيعة الجغرافية تشبه ما واجهته "إسرائيل" سابقًا مع حزب الله في جنوب لبنان، لكن صعوبة الوضع في اليمن مضاعفة نظرًا للبعد الجغرافي عن الأراضي المحتلة وامتداد الحركة الحوثية على مساحة واسعة.
الاعتماد المفرط على المعلومات التقنية وحدها لا يكفي لمواجهة هذا الواقع، إذ تتطلب العمليات الاستخباراتية الناجحة وجود شبكات بشرية محلية قادرة على نقل معلومات دقيقة وموثوقة، لكن البنية القبلية المتماسكة للمجتمع اليمني، بالإضافة إلى الثقافة المحلية الفريدة، تجعل من الصعب اختراق هذه الشبكات أو الاعتماد على عملاء محليين، ما يزيد من تعقيد أي مخطط إسرائيلي على الأرض.
القوة العسكرية الداخلية لقدرات الحوثيين
كان من أكبر الأخطاء في الحسابات الإسرائيلية الاستهانة بالقدرات العسكرية المحلية للحوثيين، إذ افترض الاحتلال أن الحصار البحري والجوي سيعيق تطوير الصناعات العسكرية اليمنية، إلا أن السنوات الأخيرة أثبتت العكس، حيث طورت جماعة أنصار الله منظومات صاروخية متقدمة، بما في ذلك صواريخ باليستية وما فوق صوتية، إلى جانب طائرات مسيرة طويلة المدى، وهو ما اعترفت به وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها بعد هجمات مباشرة على تل أبيب وميناء إيلات.
هذا التطور أعاد رسم معادلات الردع، إذ أصبح اليمن لاعبًا قادرًا على التأثير في العمق الإسرائيلي بشكل مباشر، وهو ما لم تحسب له تل أبيب حسابًا مسبقًا، وبالتالي، فإن أي عملية اغتيال أو ضربات جوية قد تحقق نتائج محدودة على الأرض لكنها لا تغيّر موازين القوى بشكل جذري، بل قد تؤدي إلى تعزيز الروح المعنوية للحوثيين ودعم محور المقاومة إقليميًا.
البنية التنظيمية غير المركزية للحوثيين
تعتمد جماعة أنصار الله على بنية تنظيمية غير مركزية، حيث تتوزع السلطات بين القيادات العسكرية والسياسية والقبلية، ما يجعل من الصعب على أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية إحداث تأثير حاسم عبر استهداف رأس الهرم فقط، حتى لو تمكن الاحتلال من اختراق بعض الشبكات أو استهداف بعض القادة، تظل باقي الشبكات نشطة ومرنة، قادرة على مواصلة العمل واستمرار العمليات العسكرية والسياسية.
هذا التنوع في القيادة جعل اليمنيين أكثر قدرة على الصمود أمام أي محاولة اغتيال، وقد ساهم في تعزيز موقفهم داخليًا وخارجيًا، حيث يظهرون كقوة متماسكة لا يمكن اختراقها بسهولة، وهو ما يرسل رسالة واضحة لـ"إسرائيل" عن محدودية تأثير الضربات الجوية في تغيير موازين القوى على الأرض.
الأبعاد الاقتصادية وتأثير البحر الأحمر
لا يقتصر الصراع على البعد العسكري والسياسي فقط، بل يمتد إلى البعد الاقتصادي، وخاصة من خلال تأثير الهجمات الحوثية على الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب، أحد أهم الممرات المائية العالمية، فقد تسببت هذه الهجمات في ارتفاع تكاليف التأمين على السفن والشحن البحري، كما أثرت على حركة التجارة العالمية بشكل مباشر، وهو ما يزيد من الضغوط الإقليمية والدولية على "إسرائيل" وحلفائها (رويترز، 31 أغسطس 2025).
يبرز هذا البعد الاقتصادي كأداة ضغط إضافية لليمنيين، حيث يمكنهم استخدام السيطرة على هذا الممر الاستراتيجي كورقة تفاوضية تؤثر في سياسات الدول الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة والدول الأوروبية، في أي صراع مستقبلي
الردود السياسية واستراتيجية المستقبل
على الصعيد السياسي، عزز الفشل الإسرائيلي موقف جماعة أنصار الله داخليًا وخارجيًا، إذ يُنظر إليها على أنها قوة صامدة قادرة على مواجهة أقوى الجيوش في المنطقة، وقد استغل قياديو الجماعة هذا النجاح الرمزي في تعزيز صورتهم أمام حلفائهم في محور المقاومة، بما في ذلك إيران وحزب الله.
في المقابل، تواجه "إسرائيل" أزمة ثقة متزايدة بين الرأي العام وقياداتها السياسية والعسكرية، نتيجة التكرار المستمر للإخفاقات العسكرية والاستخباراتية، وقد يشير ذلك إلى الحاجة لإعادة تقييم الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه اليمن، والبحث عن أساليب أكثر فعالية تتجاوز الاعتماد على الضربات الجوية وحملات الاغتيال المحدودة.
أزمة معلوماتية إسرائيلية وفرصة يمنية
في ضوء هذه المعطيات، يمكن القول إن محاولات "إسرائيل" اغتيال قيادات الحوثيين ليست مجرد إخفاقات عابرة، بل مؤشر على أزمة معلوماتية استراتيجية تواجه الاحتلال في اليمن، فالمزيج بين الطبيعة الجغرافية الصعبة، والبنية القبلية المتماسكة، والقدرات العسكرية المتقدمة، والتنظيم اللامركزي للجماعة يجعل من الصعب اختراقها أو إلحاق ضرر كبير بها.
وفي الوقت نفسه، يعكس هذا الفشل فرصة لليمنيين لتعزيز موقعهم الإقليمي وإظهار قدرتهم على مواجهة أقوى القوى العسكرية في المنطقة، كما يرسل رسالة واضحة إلى "إسرائيل" وحلفائها بأن الاعتماد على الضربات الجوية وعمليات الاغتيال وحدها لن يكون كافيًا لتحقيق أهدافهم الاستراتيجية، وأن المواجهة تتطلب فهمًا أعمق للبيئة اليمنية وموازين القوى الإقليمية والدولية.