الوقت – مثّلت قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي انعقدت في الأول والثاني من سبتمبر 2025 بمدينة “تيانجين” الصينية، علامةً فارقةً في مسار التحولات الجيوسياسية المعاصرة. فلم تكن هذه القمة مجرد ملتقى للتباحث والتشاور بين الدول الأعضاء فحسب، بل تحولت إلى منصة لإعلان أفول عصر احتكار الغرب لزمام النظام العالمي.
في تيانجين، أكدت الدول الأعضاء على تحقيق دعائم السلم والاستقرار في المنطقة، وتوطيد أواصر التعاون على شتى الأصعدة. كما شهدت القمة توقيع عشرين وثيقة تعاون وبيان، من بينها اتفاقية تأسيس مركز شامل لمجابهة التحديات والمخاطر الأمنية لمنظمة شنغهاي، واتفاقية إنشاء مركز مكافحة آفة المخدرات، والاستراتيجية العشرية للمنظمة، وتعزيز التعاون في ميادين الذكاء الاصطناعي، والصناعة الخضراء، والتعاون العلمي والتكنولوجي، والتجارة متعددة الأطراف، والتنمية المستدامة في قطاع الطاقة.
لم تكن قمة هذه الدورة من منظمة شنغهاي للتعاون مجرد تجمع اعتيادي عابر، فبفعل احتدام أوار التنافس بين القوى الشرقية والغربية، حملت هذه القمة في طياتها رسائل سياسية واقتصادية عميقة الدلالة للعالم، وقدّمت صورةً جليةً عن تبدل موازين القوى في المشهد الدولي.
ارتقاء المكانة السياسية لمنظمة شنغهاي
في خضم مشهد عالمي يسير بخطى حثيثة نحو التعددية القطبية، كشفت خطابات ومواقف القادة المشاركين في هذه القمة بجلاء أن الشرق يسعى لصياغة وترسيخ نظام جديد، نظام يعكس قيم ومصالح وأولويات الدول غير الغربية، ويتصدى للهيمنة التاريخية التي فرضها الغرب على مقدرات العالم.
وقد جهروا بالقول دون مواربة أن النظام الدولي الراهن، الذي نسجت خيوطه القوى الغربية، لم يعد يستجيب لحقائق عالم اليوم المتغير، وآن الأوان ليفسح المجال لترتيبات أكثر عدلاً وشمولاً.
الرئيس الصيني شي جين بينغ شدّد في خطابه على ضرورة إعادة صياغة بنية الحوكمة العالمية، بنية لا تقوم على أساس التسلط والهيمنة، بل على أساس التعاون والاحترام المتبادل والمشاركة المتكافئة بين الدول. وهو يؤمن بأن على العالم أن يتجاوز الأطر الضيقة الموروثة من “الحرب الباردة والنزعة التسلطية”، وأن يعترف بمكانة الدول النامية والناشئة. وفي تلميح بليغ لسياسات الولايات المتحدة، قال: “علينا أن نواصل اتخاذ موقف صارم ضد الهيمنة والسياسات القائمة على الغطرسة والتجبر، وأن نطبق التعددية الحقيقية بعيداً عن شعاراتها الجوفاء”.
من جانبه، وجّه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سهام النقد الحاد لنموذج الأمن الغربي، داعياً إلى إرساء إطار جديد يقوم على التعددية الحقة ويضمن الأمن الإقليمي والعالمي. تعكس هذه المواقف العزم الأكيد للدول الآسيوية الكبرى على تقويض احتكار الغرب لصناعة القرار العالمي.
ومما استرعى الأنظار، حضور قادة مختلف الدول والمشاهد الرمزية التي جسّدت الوحدة والتقارب بينهم. حملت هذه الصور في حد ذاتها رسالةً واضحةً للغرب مفادها أن الشرق لم يعد مجرد رقعة جغرافية، بل استحال إلى “كتلة سياسية واستراتيجية” تشقّ طريقها بثبات نحو التشكل والتبلور.
كانت الرسالة السياسية لهذه القمة جلية للغرب: العالم لم يعد يرضخ للقيادة الأحادية للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. فالكتلة الشرقية بقيادة الصين وروسيا تعمل بوضوح على رسم معالم نظام جديد، تتوزع فيه القوة وتضطلع فيه الدول غير الغربية بدور محوري.
علاوةً على ذلك، فإن حضور قادة الدول غير الأعضاء في قمة منظمة شنغهاي للتعاون لم يبرز أهمية القمة فحسب، بل أعلى أيضاً من شأن هذه المنظمة في المعادلات العالمية، ودورها في إعادة تشكيل توازن القوى والنفوذ الدولي.
رسائل اقتصادية ومالية بالغة الدلالة
من أبرز تجليات هذه القمة، قرار الدول تعزيز التعاون الاقتصادي والمالي في إطار المنظمة. فإنشاء بنك التنمية لمنظمة شنغهاي للتعاون وإعلان حزم الدعم والائتمان من جانب الصين، کشف أن الغاية ليست مجرد تعاون سياسي رمزي، بل السعي الحثيث لإنشاء مؤسسات بديلة في مواجهة الهياكل المالية الخاضعة لسطوة الغرب وهيمنته.
ستتيح مثل هذه الإجراءات إمكانية التسويات المالية على أساس العملات الوطنية، وتقليص الاعتماد على الدولار. هذه المسألة لا تحرر اقتصادات الدول الأعضاء من وطأة العقوبات والأدوات القسرية الغربية فحسب، بل تسرع أيضاً من وتيرة تقهقر الهيمنة المالية الأمريكية.
لقد كانت إحدى الأدوات الرئيسية للغرب في إدارة دفة النظام العالمي، هي الاستفادة من سيطرة الدولار والنظام المصرفي الدولي، ومع إحلال آليات مالية جديدة في الشرق، ستفقد هذه الأداة نجاعتها تدريجياً. وبالتالي، سيؤدي التراجع التدريجي لهيمنة الدولار وصعود نجم البدائل المالية، إلى فقدان الشركات والحكومات الغربية لجزء من سوقها ونفوذها التقليدي.
كانت زيادة حجم التبادل التجاري بين الأعضاء وتطوير المشاريع المشتركة في ميادين الطاقة والبنية التحتية والنقل، خطوات عملية أخرى طُرحت في هذه القمة. وتظهر هذه الإجراءات أن منظمة شنغهاي للتعاون تنتقل من طور الحوار إلى طور العمل، وستتحول تدريجياً إلى قطب اقتصادي يقف نداً للغرب.
أوصلت قمة منظمة شنغهاي رسالةً للغربيين، مفادها أنه لم يعد بالإمكان اتخاذ جميع القرارات العالمية في دهاليز واشنطن وأروقة بروكسل. بالنسبة لأمريكا وأوروبا، كانت هذه القمة بمثابة نذير خطر يحثّهما على التكيّف مع عالم متعدد الأقطاب.
سيحمل هذا التحول تداعيات جمة للغرب. فمع استعراض قوة التنين الصيني والعالم الجنوبي، لن يتمكن الغرب من إملاء أجنداته على الآخرين كما دأب على فعله في الماضي. وكلما انضمت دول أكثر إلى منظمة شنغهاي للتعاون أو نسجت معها خيوط التعاون، ضاقت دائرة النفوذ الغربي وانحسرت.
كما أن تطوير التعاون في مجال الطاقة ضمن إطار المنظمة، يعني تقليص اعتماد العديد من الدول على المصادر الخاضعة للسيطرة الغربية.
ستؤدي الاستثمارات الصينية الضخمة في البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية، خاصةً في إطار مبادرة الحزام والطريق، إلى تشكيل مسارات تجارية جديدة سيتضاءل فيها دور أوروبا وأمريكا وتتقلص أهميتهما.
علاوةً على ذلك، اضطلع الغرب في العقود المنصرمة بدور فيصل في إدارة الأزمات من خلال إنشاء تحالفات عسكرية وأمنية، لكن تشكيل التعاون الأمني في آسيا في إطار شنغهاي، يقدّم الآن نماذج جديدة للتفاعل الأمني ستحلّ محل النموذج الغربي المتهالك.
استعراض القوة الصيني المهيب
بالتزامن مع قمة منظمة شنغهاي للتعاون، أقامت الصين موكباً مهيباً يُعرف باسم “العرض العسكري الكبير” بمناسبة الذكرى الثمانين للنصر في الحرب العالمية الثانية ضد اليابان. خُصص هذا الاستعراض، الذي شرّفه بالحضور مسؤولون من عشرات الدول، لإبراز القدرات العسكرية والتكنولوجيات المتقدمة للصين.
عُرضت في هذه المناسبة أحدث الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي والطائرات المسيرة والمعدات العسكرية المتطورة للجيش الصيني. وحمل حضور قادة الدول الحليفة إلى جانب شي جين بينغ رسالةً سياسيةً، مفادها أن اتحاد القوى الشرقية آخذ في التوسع ليس فقط في المجالين الاقتصادي والسياسي، بل في المجال العسكري أيضاً.
أظهر هذا الاستعراض من جهة أن الصين لم تعد مجرد قوة اقتصادية، بل تمتلك أيضاً قدرات عسكرية جبارة يمكن أن تقلب موازين الأمن العالمي. ومن جهة أخرى، عكس حضور حلفاء مثل روسيا ودول أخرى في هذه المناسبة، تعمق التعاون الأمني في الشرق.
وفي خاتمة المطاف، مع توثيق عرى الروابط الاقتصادية والأمنية بين أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون، يواجه الغرب الآن حقيقةً ساطعةً: العالم لم يعد يُدار تحت سطوة القيادة الأحادية للولايات المتحدة وحلفائها، بل يشقّ طريقه نحو التعددية القطبية التي استحالت فيها الكتلة الشرقية بمحورية الصين وروسيا وإيران أحد أقطابها الرئيسة، وأضحت تلوح في الأفق بوادر عصر جديد تتوارى فيه شمس الهيمنة الغربية لتشرق شمس نظام عالمي أكثر توازناً وعدلاً.