الوقت- منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يشهد قطاع غزة حرباً هي الأعنف والأكثر دموية في تاريخه الحديث، لكنّ ما يميّز هذه الحرب عن غيرها ليس فقط حجم الدمار والضحايا من المدنيين، بل أيضاً الاستهداف المنهجي للصحفيين والإعلاميين، الذين يدفعون حياتهم ثمناً لنقل الحقيقة.
صحيفة الغارديان البريطانية وصفت في افتتاحيتها الأخيرة هذه الحرب بأنّها "المرعبة والأكثر دموية على الصحفيين في العصر الحديث"، مؤكدة أنّ الاحتلال الإسرائيلي لا يكتفي بإبادة البشر والمكان، بل يشن حرباً موازية تهدف إلى "إبادة الحقيقة" من خلال قتل من يوثقون جرائمه.
حرب إبادة ضد الكلمة الحرة
حسب تقرير الغارديان، فإنّ الأرقام التي نشرتها "لجنة حماية الصحفيين" تكشف هول المأساة: أكثر من 189 صحفياً فلسطينياً ارتقوا منذ بداية العدوان، بينهم خمسة صحفيين قُتلوا معاً في غارة جوية إسرائيلية الأسبوع الماضي، هذه الأرقام وحدها تجعل من غزة "المكان الأخطر في العالم للعمل الصحفي"، وتحول الحرب الحالية إلى "المجزرة الأكبر للصحفيين في العصر الحديث".
الصحيفة البريطانية شددت على أنّ "إسرائيل" لا تستهدف المقاتلين فحسب، بل الصحفيين المدنيين الذين لا يحملون سوى كاميراتهم وأقلامهم، معتبرة أن الهدف من ذلك هو إسكات الشهود على جرائم الحرب، وحرمان العالم من الصورة الحقيقية لما يجري في القطاع المحاصر.
أصوات دولية تدين... والكيان الإسرائيلي تصمّ أذنيها
المجزرة المستمرة ضد الصحفيين دفعت العديد من الأصوات الدولية لرفع الصوت.
- البابا دعا "إسرائيل" بشكل مباشر إلى وقف سياسة "العقاب الجماعي" ضد المدنيين في غزة.
- أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، وصف مستوى الموت والدمار في القطاع بأنه "غير مسبوق في العصر الحديث".
- أكثر من 500 موظف أممي، بمن فيهم مفوض حقوق الإنسان فولكر تورك، طالبوا بوصف ما يجري في غزة بـ"الإبادة الجماعية".
- وحتى داخل الولايات المتحدة، أظهر استطلاع للرأي أن نصف الناخبين الأمريكيين يعتبرون ما يحدث في غزة "إبادة حقيقية".
لكن، ورغم هذه الإدانات، تواصل "إسرائيل" عمليتها العسكرية بلا هوادة، وتصر على إسكات كل من يحاول كشف الحقيقة.
مفهوم جديد: الإبادة الإعلامية
تقرير الغارديان استعرض تحليلات لخبراء وصفوا ما يحدث في غزة بأنه ليس فقط إبادة بشرية، بل إبادة إعلامية ممنهجة.
المصطلح الجديد يعبّر عن استهداف منظم للصحفيين ومؤسساتهم وعائلاتهم، عبر:
- قتل الصحفيين عمداً أثناء التغطية أو حتى في منازلهم.
- استهداف عائلاتهم لإرغامهم على التوقف عن العمل.
- تدمير المقرات الإعلامية ومكاتب القنوات المحلية والدولية.
- منع وصول المساعدات للصحفيين الجرحى أو المحاصرين تحت الأنقاض.
بهذا الأسلوب، تسعى "إسرائيل" إلى تدمير البنية الاجتماعية والإعلامية الفلسطينية، وإفراغ الساحة من أي صوت يوثق جرائمها.
شهادات مرعبة من داخل غزة
مدير منظمة "مراسلون بلا حدود"، تيبو بروتان، حذر في تصريحات نقلتها الغارديان قائلاً: "بالوتيرة التي يُقتل بها الصحفيون في غزة، لن يبقى هناك من يروي للعالم ما يحدث في هذا الشريط الساحلي."
وأضاف إنّ الصحفيين في غزة يعانون من الجوع والإرهاق، إذ يقطعون تغطياتهم الإخبارية للبحث عن الطعام أو للمساعدة في انتشال الجثث من تحت الأنقاض أو لإنقاذ أقاربهم المصابين.
هذه الشهادات لا تقتصر على المعاناة الإنسانية، بل تفضح أيضاً سياسة "إسرائيل" في تحويل الصحفيين إلى أهداف مباشرة، باعتبارهم "خطرًا" على روايتها الإعلامية.
لماذا يخاف الاحتلال من الصحفيين؟
السبب الجوهري يكمن في أنّ الصحافة المستقلة من غزة أظهرت للعالم مشاهد لم تستطع إسرائيل إنكارها: أطفال تحت الأنقاض، عائلات تُباد بالكامل، مستشفيات تُقصف، ونساء يبحثن عن الخبز في ظل حصار خانق.
ولأن هذه الصور تناقض الدعاية الإسرائيلية التي تسعى لتبرير الحرب تحت ذريعة "محاربة حماس"، فإن الاحتلال يجد في الكاميرا عدواً لا يقل خطورة عن المقاتل، بل أشد تأثيراً على الرأي العام العالمي.
بين صمت العالم وتواطؤ الغرب
رغم بشاعة الجرائم، فإن "إسرائيل" تواصل عملها وهي مطمئنة إلى أنّها لن تواجه عقاباً دولياً جدياً، بسبب الدعم الغربي غير المشروط، الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، وفرت الغطاء السياسي والعسكري والمالي لـ"إسرائيل"، فيما اكتفت أوروبا ببيانات شجب دون خطوات عملية.
قبل اندلاع حرب غزة الأخيرة، كان الاحتلال قد قتل بالفعل أكثر من 100 صحفي فلسطيني خلال سنوات سابقة، من دون أي محاسبة، هذا الصمت شجع "إسرائيل" على توسيع دائرة استهدافها لتشمل ليس فقط الصحفيين أنفسهم، بل عائلاتهم ومؤسساتهم.
صورة غزة بلا صحفيين
الغارديان حذرت من أن استمرار هذه السياسة سيؤدي إلى إفراغ غزة من الصحفيين، وبالتالي طمس الحقيقة بالكامل. فمعظم من استشهدوا كانوا شباباً يمثلون جيلاً جديداً من الإعلاميين الفلسطينيين الذين حملوا على عاتقهم مهمة إيصال الحقيقة للعالم.
اليوم، كثير منهم قُتلوا، والباقون يعملون تحت تهديد مستمر، بين الجوع والدمار والموت.
من بين من ارتقوا، هناك أسماء تحولت إلى رموز للمقاومة الإعلامية: صحفيون قُتلوا مع أسرهم، وآخرون واصلوا العمل رغم تدمير بيوتهم، بعضهم كان يبث مباشرة لحظة استهدافه، ليبقى صوته وصورته شاهداً على وحشية الاحتلال.
هؤلاء لم يكونوا مجرّد ناقلين للأخبار، بل كانوا آباءً وأمهات وأبناءً وبنات، يمثلون نسيجاً اجتماعياً وإعلامياً كاملاً تمزق على أيدي آلة الحرب الإسرائيلية.
"إسرائيل" تخرق القوانين الدولية
القانون الدولي الإنساني يحمي الصحفيين في مناطق النزاع ويعتبر استهدافهم جريمة حرب، لكن "إسرائيل" لم تلتزم يوماً بهذه القوانين، بل سعت لتبرير جرائمها بذريعة أنّ الصحفيين "مرتبطون بفصائل المقاومة".
هذا التبرير، وفق خبراء حقوقيين، هو محاولة لتقنين القتل وتبريره، في حين أنّ الشهادات الميدانية والمستندات تؤكد أنّ معظم المستهدفين كانوا يحملون شارات صحفية واضحة ويعملون في مؤسسات معروفة.
الغارديان: على العالم أن يتحرك
في ختام افتتاحيتها، شددت الغارديان على أنّ العالم لا يمكنه أن يبقى متفرجاً على إبادة الصحفيين في غزة، ودعت إلى حماية الإعلاميين باعتبارهم خط الدفاع الأخير عن الحقيقة، وأكدت أنّ الصمت أمام هذه الجرائم يفتح الباب أمام سابقة خطيرة قد تُهدد الصحافة في كل مناطق النزاع حول العالم.
معركة الوجود ومعركة الرواية
حرب غزة ليست مجرد صراع عسكري بين "إسرائيل" والمقاومة الفلسطينية، بل هي أيضاً حرب روايات، حيث يسعى الاحتلال لاحتكار السرد وفرض روايته المضللة.
لكن رغم القتل والدمار، ما زالت غزة تروي للعالم قصتها عبر ما تبقى من صحفييها، الذين يصرّون على أن يكونوا شهوداً على الحقيقة حتى لو كان الثمن حياتهم.
ومهما حاول الاحتلال طمس الحقيقة بقتل الكلمة والصورة، فإنّ دماء الصحفيين ستبقى دليلاً على أنّ هناك جريمة متواصلة، وجريمة صامتة تستهدف الإعلام قبل أن تستهدف البشر.