الوقت- مرّة أخرى تطفو على السطح خلافات جديدة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، وذلك إثر منع ألمانيا قيام تجمعات لحملة دعم الإصلاحات الدستورية في صفوف الجالية التركية، الأمر الذي دفع أردوغان لوصف القرار الألماني بـ"التصرف النازي".
وبعيداً عن تبعات تصريح أردوغان التي حرّضت النمسا على المطالبة بردّ فعل أوروبي جماعي ، يكشف الإجراء الألماني وِجهة القرار الأوروبي إزاء الإصلاحات الدستورية في تركيا والتي تجعل الرئيس أردوغان رجلاً مطلق الصلاحيات، وبالتالي صعود حاكم على الحدود الشرقيّة لأوروبا قد يؤثر على المصالح الاستراتيجية بعيدة الأمد للقارة العجوز.
لا يمكن حصر الخلافات في ملف الاصلاحات الدستورية بين تركيا والاتحاد، ورغم وجود العديد من محطات الاتفاق والتعاون بين الجهتين باعتبار أن تركيا كانت على أبواب الانضمام للاتحاد، إلا أن هناك العديد من المواضيع الخلافية بين أنقرة وبروكسل. إذ تعد أزمة اللاجئين من أبرز المواضع الخلافية بين الجانبين أردوغان وأوروبا، إلا أن المستشارة الألمانيّة أنغيلا ميركل، التي تتحمل بلادها العبء الأكبر لتدفق اللاجئين، تزعمت جهود تقريب وجهات النظر بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، ما أفضى إلى تقارب المصالح بين أنقرة وبروكسل، حيث عول الأوروبيون على أنقرة في وقف هذا التدفق عبر أراضيها، فيما وجدت تركيا في الأمر فرصة استثنائية لاستغلال قضية التدفق. بعدها توتّرت العلاقات بين تركيا وألمانيا إثر تبني البرلمان الألماني قرارا يصنف مجازر الأرمن قبل مئة عام بأنها "إبادة جماعية"، لترتفع حدّة الخلافات بعد ما وصفته أنقرة بالإحباط بسبب التضامن الفاتر معها في أعقاب الانقلاب العسكري الفاشل في 15 يوليو/ تموز، والذي تأسس على خلفيته فصلا جديدا من التوتر عنوانه حملة "الاعتقالات" أو ما يسمی بحملة "التطهير" في الأجهزة الرسميّة التركيّة.
نكتفي بهذا القدر من المواضيع الخلافيّة التي زادتها تضييق أنقرة على حرية الصحافة واعتقال صحفيين، حدّةً ، لننتقل إلى حقيقة الموقف الأوروبي من تغيير اردوغان لنظام الحكم في تركيا، وهو في الحقيقة أحد المواضيع الخلافيّة أيضاً بين الجانبين.
يعد الانقلاب الفاشل نقطة التحوّل في النظام السياسي التركي. حزب العدالة والتنمية الذي وصل إلى سدّة الحكم في العام 2002، وفاز في الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة عام 2015، يحاول اليوم كسب الرأي الشعبي، بعد الحصول على الموافقة البرلمانيّة بـ330 صوت، لتمرير التعديلات في الاستفتاء الشعبي على ما يعرف بـ "النظام الرئاسي"المزمع عقده في نهاية مارس/ آذار أو بداية أبريل/ نيسان المقبل، للتصويت على تعديلات دستورية تشمل 18 مادة، وهو الاستفتاء الشعبي السابع في تاريخ تركيا، والثالث الذي يحصل بعد الانقلابات العسكري (الأوّل بعد انقلاب 27 مايو/ أيار 1960 العسكري، والثاني بعد انقلاب 12 سبتمبر/ أيلول 1980 العسكري.
إلا أن هذا السعي الذي وُجه باعتراض داخلي تركي، واجهته اعتراضات أوروبية بشكل عام وألمانيّة على وجه الخصوص. إلا أن منشأ الاعتراضات لا یتعلق بشكل النظام الحالي أو المرتقب، بل بمضمونه وتحديداً الرئيس أردوغان، لأن تعزيز صلاحيات أردوغان تعني صعود حاكم جديد على الجبهة الشرقيّة لأوروبا لا يتحمّل الانتقاد، ولا يقبل بمنطق الحوار، فضلاً عن مواقفه الانفعالية التي قد تؤثر على مصالح القارة الأوروبية التي تُثقلها التحديات، ليس آخرها تفكّك الاتحاد. في الحقيقة، ترى أوروبا في أردوغان "جار سوء" بعد أكثر من 122 سنة على العلاقات المشتركة والتي شابتها العديد من حالات الصعود والهبوط في مستواها، وإن كان الطابع الأول هو الغالب.
الجار الشرقي بحلّته الجديدة، وبما أنّه يعزّز من قدرة الجانب التركي بسبب بسط يد أردوغان مطلقاً، سيكون منشأ للخلافات بين الجانبين بسبب العلاقات الثقافية والاقتصاديّة والسياسية القائمة. يرى الاتحاد الأوروبي في النظام الرئاسي التركي تقويضاً لسلطة القانون، باعتبار ينسف أصل الفصل بين السلطات والذي تؤكّد عليه أوروبا.
وقد أثبت الرئيس التركي الذي وصل مع سوريا إلى نقطة الالتقاء، ولاحقاً نقطة اللاعودة، وهو ما فعله مع الكيان الإسرائيلي أيضاً بعد حادثة مرمرة، ولاحقاً تطبيع العلاقات بين البلدين، أثبت اعتماده أي وسيلة ممكنة في سبيل تحقيق أهدافه، الأمر الذي يعد يفسّر حالة عدم الاستقرار في العلاقات التركيّة الخارجيّة خلال العقد الماضي. أردوغان الذي تخلّى عن رئيس وزرائه ومنظّر حزبه أحمد داوود أوغلو، لن يتوانی عن أي فعل مماثل مع أوروبا فيما لو اقتضت مصلحته ذلك. وشعار "الغاية تبرّر الوسيلة" تعد أيضاً شعاراً داخلياً لأردوغان، ولعل العلاقة مع الأكراد، ومرحلة ما بعد الانقلاب الفاشل خير دليل على ذلك. لهذا رفضت ألمانيا حملة الدعم للإصلاحات الدستورية في صفوف الجالية التركية، لأنّه يعد دعماً غير مباشر لسياسة أردوغان الآحاديّة، أو الإلغائيّة، كما يصفها البعض.
إذاً، تعي أوروبا جيّداً أن نتائج النظام الرئاسي لا تقتصر على الداخل التركي، والأقليات في البلاد، إلا أن مخالفتها لهذا الأمر لا يتعلّق بالقانون نفسه، إنما بشخص أردوغان وتجربة أكثر من عقد ونيّف على العلاقة بين الجانبين.