الوقت - قامت الدنيا ولم تقعد على مشهد وفاة الطفل السوري "آلان كردي"، الذي أبكانا كما أبكى الجميع. قصة "الطفل الغريق" التي صدمت العالم واجتاحت على إثرها موجةً من الغضب الممزوج بالحزن تعود اليوم بحلّة جديدة تخلو من الغضب العالمي وأبطالها أطفال غزّة، وليس أطفال سوريا، الذي قتلهم البرد القارص بعدما جمّد الدماء في عروقهم.
قد يعتقد البعض أن الوضع الإنساني الكارثي في غزّة أمر مبالغ فيه، ولكن عندما تحذر جهات إسرائيلية من احتمالات وقوع كارثة إنسانية يليها انفجار في غزة نتيجة استمرار واقع الحصار السياسي المستمر منذ 11 عاما، فهذا يعني أن الوضع غير محتمل في بيوت الغزيّين، أو "كرفانات الموت" كما يطلق عليها أصحابها.
لسعات البرد وسموم التلوث لا ترحم الكبار، فكيف بالأطفال الذين لم يستقم عودهم بعد، ولا يمتلك جسدهم طاقة تحمّل هذه الأجواء. بالأمس قتل وحش البرد محمد السواركة ابن الاثني عشر يوما، وقبله كثر، وبعده عبد القادر مسلّم أبو هولي (8 أشهر)، وآخرين اليوم ينتظرون المصير نفسه في هذه الكرفانات التي تفوح منها رائحة المعاناة، فأين المتباكون على براءة الطفولة؟
الوضع الإنساني في غزّة
الجميع يدرك اليوم أن الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة تتدهور بشكل متسارع وغير مسبوق، وعلى كافة الأصعدة، وذلك بسبب الحصار المتواصل منذ العدوان الأخير، وهو السبب الرئيسي لأزمات قطاع غزة، خاصة الفقر والبطالة، وانعدام الأمن الغذائي، فضلاً عن الأمن الإجتماعي.
صحيفة "هآرتس" التي استخفت في إحدى افتتاحيتها من مزاعم الکيان الإسرائيلي بأنه منذ الانفصال في عام 2005، لا يسيطر على قطاع غزة، ولا يتحمل المسؤولية عن حوالي مليوني مواطن هناك، أكّدت أن حوالي 95% من المياه الجوفية فيها ليست ملائمة للشرب، والمياه المطهرة تحول إلى البيوت من دون أي شروط صحية؛ ويتم تزويد الكهرباء لثماني ساعات يوميا فقط بل اقل من ذلك.
الصحيفة الإسرائيلية التي تحذر من الأوضاع الإنسانية في غزة لأسباب تتعلّق بالمستوطنيين أنفسهم في سديروت وغيرها من قبيل "أن مياه المجاري تصب في البحر والأمراض المعدية لا تعرف الحدود"، وستؤثر على الإسرائيليين، تؤكد ضرورة إجراء تغيير أساسي في تكتيك الحصار الفاشل، محذّرة من كارثة بيئية مرتقبة.
إن محاولة الكيان الإسرائيلي للتنصّل من جرائمه بحق الغزيّين عبر رمي الكرة في ملعب حركة حماس والجهاد الإسلامي غير مجدية، فالوضع متدهور في المنطقة بشكل كبير منذ إغلاق المعابر والأنفاق، وما نتج عن الحرب الأخيرة على قطاع غزة التي تسببت بتدمير 23588 منزلا بشكل كلي، و13644 منزلا بشكل جزئي، بحيث باتت تلك المنازل لا تصلح للسكن، فمن الذي غيّر ملامح أحياء كاملة في القطاع صيف العام 2014 وحوّل سكّانه إلى نازحين بلا مأوى؟
مشكلة الغزيين لا تقتصر على الجانب الإسرائيلي الذي أقرّ ميزانية بناء جدار عازل على حدود القطاع على شاكلة الجدار في الضفّة الغربيّة، بل زاد إغلاق الجانب المصري لمعبر رفح من طينة الغزيين بلّةً. ورغم أننا نقدّر الأوضاع الأمنية الصعبة في سيناء، إلا أن الجانب المصري يتوجّب عليه تجاوز الأزمة بأسرع شكل ممكن والعمل على فتح المعبر، وإنهاء أزمة السفر في غزة، خاصّة أمام الحالات الإنسانية والاستثنائية الذين هم بحاجة ماسة إلى السفر للتخفيف من معاناتهم.
حتى الساعة لا خطوات إيحابية معلنة من قبل الجانب المصري تشير إلى فتح قريب للمعبر، ولكن من المعيب أن يبقى المعبر مغلقاً في ظل تفاقم الأوضاع الإنسانية في غزة، وبالتالي لا بد من فتحه في كلا الإتجاهين بصورة كاملة بقرار سياسي مستعجل يحد من معاناة الشعب الفلسطيني الذي يعاني من أوضاع "مأساوية"، وفق وصف المؤسسات الإنسانيّة.
لا ندري مصير الغزيين، فهل عليهم أن ينتظروا حتى العام 2020 حيث يصبح القطاع منطقة غير صالحة لحياة البشر وفق تصريح الأمم المتحدة؟ ولكن يبدو أن هناك من يريد أن يصفّي حسابات سياسية مع حماس خصوصاً، وفصائل المقاومة عموماً، على أرواح ودماء الغزيين. هناك حالة مأساوية متدهورة ووضع طوارئ مستمر، إلا أن نشاطات المنظمات الإنسانية، إن وجدت، يجب أن تتنوع ما بين الطابع الإغاثي على المدى التكتيكي والطابع التنموي على المدى الإستراتيجي.
اليوم، مؤتمر باريس على الأبواب حيث سيحاول المجتمعون البت في أمر حل الدولتين واذا كان يصلح للبقاء والإنعاش والتحقيق في الفرصة الأخيرة التي نعتقد بفشلها، لا لكونها انتهاكا صارخاً بحق الشعب الفلسطيني، بل بسبب الجشع الإسرائيلي الذي لن يتوانى عن إخراج الشعب الفلسطيني من غزّة فضلاً عن الضفّة الغربية عندما تصبح الظروف مؤاتية. ربّما يقتنع عباس بعد مؤتمر باريس بالعودة إلى المربع الأول، رغم أننا لا نعوّل عليه كثيراً، ولكن ليس من باب المبالغة السياسية القول إن المرحلة القادمة هي المرحلة الأهم في تاريخ القضيّة الفلسطينية على الإطلاق، مرحلة الدولة الواحدة، فلسطين أم الكيان الإسرائيلي، نكون أو لا نكون، وإذا أردنا الخيار الأول لابد من الوحدة والمواجهة الشاملة.