الوقت – في إطار السياسة التي انتهجتها الجمهورية الإسلامية تحت شعار “التوجّه نحو الشرق”، والتي ترنو إلى توثيق التعاون الإقليمي وتعميق أواصر الشراكة مع دول الجوار، حطّ رئيس الجمهورية الإيرانية، مسعود بزشکيان، الرحال في تركمانستان وكازاخستان يومي الخميس والجمعة الماضيين، وهذه الزيارة تأتي حلقةً في سلسلة الجهود الحكومية الرامية إلى ترسيخ العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول المنطقة، ولا سيما جمهوريات آسيا الوسطى، التي تتبوأ مكانةً استراتيجيةً بما تمتلكه من موارد طبيعية، وطاقات اقتصادية، وشبكات نقل تجعلها عقدةً محوريةً في السياسة الخارجية الإيرانية.
وبعد أن أرسى الفريق الحكومي الإيراني الثالث عشر ركائز العلاقات العميقة مع هذه الدول، تواصل الحكومة الرابعة عشرة السير على هذا النهج بعزمٍ وإصرار، مستثمرةً ما تتيحه الفرص الذهبية للتعاون الثنائي، ساعيةً إلى تعزيز مكانة إيران في المنظومة الإقليمية، ورفع حضورها في فضاءات آسيا الوسطى الاقتصادية والسياسية.
الاقتصاد… محور العلاقات بين طهران وعشق آباد
إن الاقتصاد، بما بات عليه من نفوذٍ وهيمنة على العلاقات الدولية، أضحى عمادَ التعاون بين إيران وتركمانستان، حيث يتصدّر ملف تعزيز التعاون الاقتصادي قائمة أولويات الوفد الإيراني رفيع المستوى خلال زيارته إلى هذين البلدين.
وفي هذا السياق، صرّح مهدي سنائي، مساعد الشؤون السياسية في مكتب الرئيس الإيراني، كاشفاً عن تفاصيل هذه الرحلة الإقليمية بقوله: “زيارة الرئيس إلى كازاخستان تأتي استجابةً لدعوةٍ رسمية من رئيس الجمهورية الكازاخي، وهي زيارةٌ ثنائية رسميّة تتخلّلها لقاءات رفيعة المستوى، وتهدف إلى توقيع أكثر من عشرة وثائق تعاون بين البلدين، كما ستشهد الزيارة انعقاد منتدى تجاري كبير بين إيران وكازاخستان، إلى جانب إقامة معرض للوثائق التاريخية وعرض مجموعة من الكتب التي تتناول المشتركات التاريخية للبلدين”.
أما فيما يخص زيارة الرئيس إلى تركمانستان، فقد أوضح سنائي قائلاً: “سيشارك الرئيس بزشکيان في مؤتمر السلام والثقة المزمع عقده في تركمانستان، حيث سيلقي كلمةً في هذا المحفل الدولي المرموق، كما سيعقد لقاءات مع زعيم تركمانستان ورئيسها، لمناقشة قضايا محورية تتعلّق بالعلاقات الثنائية، ولا سيما في مجالات الطاقة والتجارة والترانزيت، وعلى هامش المؤتمر، ستُعقد لقاءات مع رؤساء الدول المشاركة في هذا الحدث”.
إن العلاقات التي تجمع إيران بتركمانستان ضاربةٌ بجذورها في أعماق التاريخ، وقد تأسّست على أسس الجوار الجغرافي الوثيق، والوشائج الثقافية والتاريخية المشتركة، وهو ما منحها ميزةً طبيعيةً لتبادل المنافع، سواء على صعيد السلع أو الخدمات أو الاستثمارات، وتمتلك إيران القدرة على تصدير مجموعة واسعة من المنتجات إلى تركمانستان، تشمل السلع الصناعية، ومواد البناء، والمشتقات البتروكيماوية، والمحاصيل الزراعية، والمنتجات الغذائية، والسلع الاستهلاكية، بأسعارٍ تنافسية.
وفي المقابل، فإن تركمانستان، على الرغم من غناها بالموارد الطبيعية ومصادر الطاقة، تعتمد بشكلٍ كبير على استيراد العديد من السلع والخدمات لتلبية احتياجاتها الداخلية، ما يجعلها سوقاً واعدةً أمام المنتجات الإيرانية، ومن هنا، أُدرجت تركمانستان ضمن الوجهات الاستراتيجية للصادرات غير النفطية الإيرانية، حيث انكبّ القطاع الخاص في إيران خلال السنوات الأخيرة على اقتناص الفرص الاستثمارية المتاحة في هذه السوق الحيوية، وقد أثمرت هذه الجهود عن تحقيق نموٍّ ملحوظ في حجم الصادرات الغذائية والاستهلاكية إلى تركمانستان، ما عزّز نصيب إيران في السوق التركمانية، ووفقاً لتقرير صادر عن “كاسبين بوست”، فقد شهدت صادرات إيران غير النفطية إلى تركمانستان نمواً مطّرداً في عام 2025، إذ بلغت قيمتها خلال الربع الأول من العام نحو 125 مليون دولار.
وعلى صعيد آخر، تتمتّع المحافظات الإيرانية المحاذية لتركمانستان، كخراسان الشمالية وخراسان الرضوية وغلستان، بفرصٍ فريدةٍ للتوسع التجاري، وذلك بفضل الأسواق والجمارك الحدودية التي تربط بين الجانبين، ويمكن للجهود المشتركة بين المسؤولين المحليين في البلدين، وإنشاء المزيد من الأسواق الحدودية، أن تعزّز عملية تبادل السلع، وتخلق فرصاً وظيفيةً لأبناء هذه المناطق، ما يؤهلها لأن تصبح مراكز اقتصادية مزدهرة، وقنوات رئيسية لتعزيز الشراكة التجارية بين الجانبين.
وتُعدّ تركمانستان، اليوم، الشريك التجاري الأكبر لإيران في آسيا الوسطى، علاوةً على كونها بوابة العبور الرئيسية إلى هذه المنطقة الاستراتيجية، وكلما ازداد عمق العلاقات بين البلدين، انعكس ذلك في مزيدٍ من التوسع في التبادلات التجارية بين إيران وسائر جمهوريات آسيا الوسطى.
آفاق مشرقة للعلاقات الاقتصادية مع كازاخستان
أما العلاقات التي تربط إيران بكازاخستان، فقد شهدت خلال الأعوام الأخيرة زخماً ملحوظاً، حيث بات البلدان يشكّلان ركيزةً أساسيةً في المشهد الاقتصادي والتجاري لمنطقة آسيا الوسطى والخليج الفارسي، وتزخر هذه العلاقة بمقوّماتٍ وفرصٍ يمكنها أن ترتقي بالتعاون الثنائي إلى مستويات غير مسبوقة.
ولا تنحصر أبعاد هذا التعاون في مجالات التصدير والاستيراد فحسب، بل تشمل كذلك الاستثمار المشترك، وتطوير سلاسل القيمة، والابتكارات الصناعية، والبنية التحتية اللوجستية، وتعدّ كازاخستان، بما تزخر به من موارد معدنية وافرة، وإنتاجٍ زراعيٍ غزير، ومواد خام، سوقاً غنيةً وجاذبةً للمنتجات الإيرانية، التي تشمل السلع الصناعية والبتروكيماوية ومواد البناء والمعدات الإنتاجية والسلع الاستهلاكية، ومن شأن هذه المنتجات أن تسدّ احتياجات السوق الكازاخية المتنوعة، فضلاً عن دورها في المشاريع التنموية المشتركة.
وفي المقابل، تمثل كازاخستان مصدراً مهماً لتلبية احتياجات إيران في مجالات المعادن الخام، والمحاصيل الزراعية كالحبوب والشعير، والمواد الأولية الصناعية، ما يفتح آفاقاً رحبةً للتعاون في مجالات الإنتاج المشترك والاستثمارات الصناعية.
وقد أُبرمت بين البلدين اتفاقياتٌ مهمةٌ مهّدت الطريق لتوسيع التعاون الاقتصادي، من بينها خريطة طريق للتعاون التجاري والاستثماري، ومذكرات تفاهم لتعزيز التبادل السلعي والخدماتي، وبرامج مشتركة لتطوير البنية اللوجستية وشبكات النقل.
لقد نسجت إيران وكازاخستان وشائج التعاون عبر خيوط المنظمات الإقليمية، ولا سيما منظمة التعاون الاقتصادي (إيكو) واتحاد أوراسيا الاقتصادي، فاتحةً بذلك أبواباً رحبةً لتفاعل اقتصادي ينهل من ينابيع التفاهم المشترك، وقد أضحى انضمام إيران إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي نافذةً ذهبيةً لتعزيز التجارة التفضيلية، وتوسيع رقعة الاستثمارات المشتركة مع كازاخستان وسائر دول الاتحاد، ما يرسّخ معالم شراكة استراتيجية تتجاوز حدود التجارة إلى آفاق أرحب من التعاون الاقتصادي المستدام.
وتشهد التقارير الرسمية الكازاخية على قفزة نوعية في حجم التبادل التجاري بين البلدين، إذ تشير الإحصاءات إلى تضاعف حجم المبادلات مقارنةً بالسنوات الماضية، ففي عام 2024 بلغ إجمالي التجارة بين الجانبين 340 مليون دولار، في حين تستهدف الخطط المستقبلية الوصول بهذا الرقم إلى ثلاثة مليارات دولار، ويُعزى هذا النمو المتسارع إلى اتساع رقعة التعاون في قطاعات محورية، مثل الزراعة والمنتجات الغذائية المُصنّعة وبعض الصناعات التحويلية.
وفي مستهل عام 2025، أبرمت الوفود الاقتصادية للبلدين حزمةً من الاتفاقيات التجارية بقيمة تناهز 92.8 مليون دولار، تضمنت تعزيز التعاون الصناعي، وتفعيل دور القطاع الخاص، وتيسير انسياب السلع الكازاخستانية إلى الأسواق الإيرانية، ويرى المراقبون أن كازاخستان، بامتداد شواطئها على بحر قزوين، تمثّل لإيران شريكاً استراتيجياً لا يُقدّر بثمن، ليس فقط من زاوية العلاقات التجارية، بل كذلك من حيث الفرص اللوجستية والتنموية، فضلاً عن التعاون في قضايا البيئة والحفاظ عليها.
ممرات إيران العابرة… شريان الحياة لآسيا الوسطى
إنّ آسيا الوسطى، تلك المنطقة التي تشكو من انعدام المنافذ البحرية، تجد في إيران جسراً حضارياً وجغرافياً يربطها بالعالم، وما زاد في أهمية هذا الموقع الفريد ما شهدته السنوات الأخيرة من تحولات جيوسياسية، فرضت قيوداً على تعامل جمهوريات آسيا الوسطى مع الأسواق الأوروبية نتيجة العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، وقد دفع ذلك هذه الدول إلى البحث عن مسارات بديلة لتصدير منتجاتها، فجاءت إيران لتتبوأ مكانةً مرموقةً كمعبر آمن وموثوق يربط بين اليابسة والمياه.
وتمتلك إيران من المقومات الجغرافية والبنى التحتية ما يجعلها الخيار الأكثر جدوى لهذه الدول الحبيسة، ومع إطلاق مشاريع طموحة مثل ممر الشمال-الجنوب، وتطوير خطوط السكك الحديدية التي تصل كازاخستان وتركمانستان بإيران، إضافةً إلى توسيع الموانئ الجنوبية كميناء تشابهار، وتحديث شبكة النقل في شمال البلاد، تحولت إيران إلى بوابة استراتيجية تتيح لدول آسيا الوسطى اختصار الزمن وتقليل الكلفة في إيصال منتجاتها إلى الخليج الفارسي والمحيط الهندي.
التعاون الغازي… عماد الشراكة بين إيران وتركمانستان
لقد بات التعاون الغازي بين إيران وتركمانستان أحد أعمدة العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، حيث يشكّل هذا التعاون ركيزةً محوريةً في تحقيق الأمن الطاقوي للبلدين وتعزيز العوائد الاقتصادية لكليهما، فمنذ سنوات، أضحت إيران معبراً رئيسياً لنقل الغاز التركماني إلى الأسواق الإقليمية، ما أضاف بعداً جيوسياسياً واقتصادياً لهذه الشراكة.
وفي هذا السياق، شهدت حكومة إيران الثالثة عشرة توقيع اتفاقية مفصلية مع تركمانستان، تُتيح لإيران نقل ملياري متر مكعب من الغاز التركماني سنوياً إلى أذربيجان ومنها إلى تركيا، مع تخصيص جزء من هذا الغاز لتلبية احتياجات خمس محافظات إيرانية الشمالية، وقد أسهمت هذه الاتفاقية في التخفيف من أزمة الطاقة في تلك المناطق، وفي الوقت ذاته وفرت لإيران عوائد اقتصادية من خلال رسوم الترانزيت.
وعلى الجانب الآخر، تمثّل الاتفاقية فرصةً ذهبيةً لتركمانستان، التي تُعد من أكبر منتجي الغاز في العالم، لتوسيع نطاق صادراتها من خلال الاستفادة من البنية التحتية الإيرانية التي تربط آسيا الوسطى بالخليج الفارسي، وبذلك، لا يُعد هذا التعاون مجرد علاقة ثنائية، بل جسراً يربط بين أسواق الطاقة الإقليمية، ويُسهم في تحقيق التكامل الاقتصادي.
الطاقة الكهربائية
إلى جانب الغاز، يبرز قطاع الكهرباء كأحد الأعمدة الواعدة لتعزيز التعاون بين إيران وتركمانستان. فمنذ سنوات، اعتمدت إيران على استيراد الكهرباء من تركمانستان، حيث يتم توجيه كميات تصل إلى 140 ميغاواط لتلبية احتياجات المحافظات الشمالية والشرقية، ومع تزايد الطلب على الكهرباء، وخاصةً في فصل الصيف، تسهم القدرات الإنتاجية الكبيرة لتركمانستان في سدّ العجز وتخفيف الأعباء على الشبكة الوطنية الإيرانية.
وفي عام 2023، تم تشغيل خط ثانٍ لنقل الكهرباء بين البلدين، ما أدى إلى توفير ما يقارب مليون لتر يومياً من الوقود المستخدم في محطات الطاقة، وأسهم في تحسين كفاءة استهلاك الطاقة وتقليل الأثر البيئي.
وفي خطوة استراتيجية، أعلنت وزارة الطاقة التركمانية عن خطط لزيادة إنتاج الكهرباء إلى 35.5 مليار كيلوواط/ساعة بحلول عام 2030، ما يفتح آفاقاً جديدةً للتعاون مع إيران، إذ يمكن لإيران أن تلعب دور الوسيط في تصدير فائض الكهرباء التركماني إلى أسواق إقليمية مثل العراق وأفغانستان وتركيا وأذربيجان وأرمينيا، وبذلك، تعزز إيران مكانتها كجسر استراتيجي في سوق الطاقة الإقليمي، حيث تسهم في تلبية احتياجاتها الداخلية وتوسيع رقعة نفوذها الاقتصادي.
