الوقت- سوريا ليست المدينة الفاضلة التي تحدث عنها أفلاطون وكان أهلها المصلين القانتين التوابين الأوّابين. أوروبا ليست كذلك، ولا دولها الاسكندنافية، ولا أيّ منطقة في العالم.
تعيش مدينة حلب إحدى أبرز مدن سوريا وخاصرتها الاقتصاديّة، أيّاماً صعبة، تتّسم بالصفة نفسها حيث ارتُكِبَت، ولا تزال ترتكب، فيها الأخطاء.
لست هنا في وارد الدفاع عن أي جهة معيّنة في المدنية، بل أكتب عن معرفة مباشرة بسكّانها وجميع الفئات المتواجدة فيها، بعضهم بصورة مباشرة، وآخرين بصورة غير مباشرة، عبر السكّان أنفسهم الذين كانوا يُحدّثونني عن بعض قصصهم التي عاشوها تارةً مع المسلّحين، وأخرى مع الجيش السوري واللجان الشعبية.
كل بلد فيه أخطاء، بل كل مدينة وقرية وبيت، وحلب ليست عن هذا الأمر ببعيد، إلا أن الآلات الإعلاميّة الضخمة تروّج لفريق على حساب آخر، دون أن تكترث إلى آراء المدنيين، منطلقةً في مواقفها من توجّهات ضيّقة لتصفية الحسابات السياسيّة عبر مبدأ "الغاية تبرّر الوسيلة" الذي تتّخذه شعاراً لها.
قصص كثيرة، وتبادل لوم أكثر بين أطراف عدة في حلب، كما في كافّة المدن السوريّة، التي تشهد تواجداً لأطياف مختلفة، سواء الجيش السوري من ناحية، والمسلحين من جهة أخرى، أو المسلحين أنفسهم الذي يعيشون حالة من الانقسام والاختلاف الإيديولوجي الذي يؤسس لمعارك طاحنة فيما بينهم، الأمر الذي سيُفضي إلى التأثير على سير المعارك لصالح الجيش السوري.
السؤال الأبرز الذي يطرح نفسه اليوم يتعلّق بموقف المدنيين من كافّة الجهات المسلّحة المتواجدة في حلب، وما الذي يريده سكّان المدينة؟ ومن هي الجهة المسؤولة عن معانات السكّان في المدينة؟
بين الجيش والمسلحين
ما سبق مقدمة، أقول بعدها أنه وإن اختلف المدنيون أو السياسيون حول الجهة التي تسبّبت بالوضع القائم، إلا أنّه لا يختلف إثنان على أن الأمن والاستقرار أبرز ما يطوق إليه سكّان حلب في هذه المرحلة وما يليها، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى النقاط التالية:
أوّلاً: معارك حلب تستنزف الجيش السوري وتؤثر على المدنيين، إلا أن سبب المعارك أهم من خسائر الجيش السوري، وتتعدّى حدود حلب الشرقيّة، والغربية وريف المدينة، بل كافّة المحافظات السوريّة. إن هؤلاء المسلّحين الهاربين من مناطق عدّة تسببوا بالأمر ذاته في تلك المناطق، واليوم يفعلون الأمر ذاته في حلب، وربّما غداً في مناطق أخرى.
ثانياً: لا يختلف إثنان على وجود بعض الأخطاء الفرديّة، أؤكد الفرديّة، لدى الجيش السوري واللجان الشعبية، ولكن لم يُسَجّل للجيش السوري أو اللجان الشعبيّة أي تهجير للسكان من بيوتهم لإسكان آخرين، بخلاف الجماعات المسلّحة التي عمدت إلى تهجير بعض المدنيين لفرض زعامتها وإسكان مقاتليها، بعضهم سوري والآخر أجنبي. نعم هنا تسجّل بعض أخطاء "التعفيش" من قبل بعض أفراد اللجان الشعبية لبيوت خالية من سكّانها، في حين أن الجماعات المسلّحة تعمد إلى "التعفيش" بعد إخراج الناس من بيوتهم، والثانية لا تبرّر الأولى.
ثالثاً: حتّى معارضي الدولة السورية، لم يتّهموا الجيش بعمليات التهجير من المناطق التي يسيطر عليها، فضلاً عن التهجير الطائفي والعرقي الذي ارتكبته الجماعات المسلّحة في سوريا عموماً، وحلب على وجه الخصوص، بخلاف الجماعات التكفيرية التي ارتكبت جرائم ذات طابع طائفي ومذهبي في المناطق التي تسيطر عليها.
رابعاً: لم يُسجّل للدولة السورية أي حادثة احتجاز للمدنيين سواء في حلب أو في بقيّة المدن السورية أو حتّى للذين يودّون مغادرة البلاد، لكن الجماعات المسلّحة تعمد لاحتجاز المدنيين بغية استخدامهم كدروع بشرية. هذه السياسة لا تقتصر على الفصائل المسلّحة المتواجدة في حلب، بل تشمل كافّة التنظيمات التكفيرية وفي مقدّمتها تنظيم داعش الإرهابي، في الرقّة والموصل، على حدّ سواء.
خامساً: رغم وجود بيئة حاضنة للمعارضة السورية في بداية الأزمة، إلا أن وصول "الغرباء" وتسلّمهم مناصب قياديّة في التنظيمات المسلّحة، بسبب سوابقهم "الجهاديّة" في أفغانستان والعراق، أفضت إلى واقع متأزم داخل البيت الواحد جعل كل جماعة تنشق وتعلن تشكيل فصيل أو فيلق أوجماعة، في حين بقي العديد من السوريين ضمن الجماعات الكبرى كجبهة النصرة وداعش، لأسباب تارةً إيدولوجيّة وأخرى اقتصاديّة، وثالثة تتعلّق بخشيتهم من بطش التنظيم بعد أن قطعوا شعرة معاوية مع سكّان المدينة وجماعاتها الصغرى التي تعتاش اليوم على فتات المدنيين في ظل غياب جهة دوليّة مموّلة بشكل فاعل.
إن سكّان حلب اليوم، حتى أولئك الذين يعارضون النظام في سوريا لأخطاء قد نوافقهم عليها وقد نختلف معهم، يطوقون أكثر من أي وقت مضى للعيش في كنف الدولة السورية، ليس حبّاً بمؤسساتها بل خشيةً على أبنائهم قبل أنفسهم، وأسوةً ببقية المناطق التي نجح الجيش السوري في بسط سيطرته عليها وتحقيق الأمن والاستقرار فيها.