الوقت- ينطلق الفكر الإستراتيجي الإسرائيلي من افتراض مفاده أن الوضع الراهن في سوريا بشكل عام، وسيما في الجنوب، هو الأمثل في تحقيق الأمن على المدى المنظور، بالتزامن مع إضعاف سوريا وحلفائها استراتيجياً.
وتنطلق الإستراتيجية الإسرائيلية التي تصدر معالمها عن مراكز الأبحاث المُرتبطة عضويًا بمراكز صنع القرار الأمنيّ والسياسيّ في تل أبيب، في ظل غياب التصريحات المباشرة لأركان الحكم الإسرائيلي عن الأهداف في سوريا، تنطلق من ثوابت عدّة ظهرت في عدّة أوراق بحثية أبرزها:
أولاً: إطالة أمد الأزمة عبر توفير الدعم لبعض الجماعات المناوئة لسوريا، حتى تنشغل مختلف الأطراف بمحاربة بعضها البعض دون إستهداف الكيان الإسرائيلي، باعتباره البقعة الجغرافيّة الوحيدة في المنطقة التي لم تعاني كثيراً من الإضطرابات بسبب الأزمة، وفق معهد (MEMRI) الإسرائيلي.
ثانياً: الحد من نفوذ طهران، فرغم إمتلاك تل أبيب مصالح أمنية حساسة تسعى للمضي قدماً باتجاهها في سوريا، إلا أنها تمتلك قدرة تأثير محدودة على الأزمة السورية أمام كل من ايران وروسيا التي دخلت الأزمة بشكل مباشر بعد زيارة اللواء قاسم سليماني إلى موسكو. ولا شكّ في أن التدخّل الروسي كبّل الجانب الإسرائيلي بعض الشيئ حيث تتجنّب الأخيرة الوقوع في خطاء إستراتيجي مع روسيا، كما فعلت تركيا.
ثالثاً: منع نقل أسلحة متطورة إلى حزب الله في لبنان، وإستهداف أنشطة الحزب في الجنوب السوري، كما حصل في القنيطرة، باعتباره يشكّل خطراً على أمنها القومي، فحزب الله بات أقوى عسكريًا من عدّة دول في حلف شمال الأطلسيّ (الناتو)، بحسب وزير الأمن الإسرائيليّ، أفيغدور ليبرمان. تنظيم داعش الإرهابي، وبخلاف حزب الله، لا يُشكّل خطرًا على الدولة العبريّة في المُستقبل المنظور، لا من الجبهة الجنوبيّة (سيناء)، ولا من الجبهة الشماليّة (مُرتفعات الجولان)، وفق دراسة صدرت عن مركز "بيغن-السادات" للدراسات الاستراتيجية أعدّها رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش، هرتسي هليفي. الدراسة إعتبرت هزيمة داعش خطأ استراتيجي ستترك "إسرائيل" وحيدة في مواجهة أعدائها، وتحديداً حزب الله.
رابعاً: إضفاء البعد الطائفي لأسباب تتخطى حدود سوريا وتصل إلى الرياض وطهران. فقد جاء في شهادة مدير الابحاث في معهد بروكينغز دنيال بايمن، أمام مجلس الشيوخ الاميركي يوم 22 آذار الماضي، "ان الطبيعة المذهبية للحرب الاهلية السورية وضعت حزب الله في صفّ اقلية لا تتمتع بالشعبية في العالم العربي"، ليضيف أحد ضبّاط وزارة الدفاع الأمريكية : "يجب ان تعرقل الولايات المتحدة قدرة حزب الله على القيام بعمليات دولية من خلال زيادة الصراع المذهبي الداخلي في لبنان".
خامساً: تخشى السلطات الإسرائيلية من تحويل منطقة الجنوب السوري التي تتاخم الحدود مع فلسطين إلى ساحة لانطلاق العمليات ضد العمق الصهيوني، فقد جزم "لواء الأبحاث" التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، بأن "إحكام التكفيريين سيطرتهم على سوريا، وتحديدا في منطقة الجنوب سيغير البيئة الإستراتيجية لإسرائيل بشكل جذري، على اعتبار أنه يفتح المجال أمام تحول هذه المنطقة إلى قواعد انطلاق العمق الإسرائيلي.
استراتيجيّة جديدة
اليوم، وبعد حوالي نصف عقد من الأزمة، بدأت تطفو على السطح معالم سياسة إسرائيلية جديدة تنظر أبعد من الحل، وتراها مناسبًةً لمصالحها الإستراتيجيّة في الشرق الأوسط.
فقد نشر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى تقريراً حول الدور الإسرائيلي في الأزمة السورية، واحتمال تغيير هذه السياسة قريبًا إلى التدخل الفعال؛ لاعتبارات "أخلاقية" و"استراتيجية"، كما يوضح الكاتب نيري زيلبر الذي يتحدث عن "إمكانيات دعم "إسرائيل" لطرف في الحرب الجارية هناك منذ أكثر من خمسة أعوام".
هذه الرؤية يتبنّاها أيضاً رئيس مركز أبحاث الأمن القوميّ، الجنرال في الاحتياط عاموس يدلين، وهو الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، الذي دعا في مقالين له الجيش الإسرائيلي لأداء دور نشط في الحرب السورية، والتخلي عن موقفه المتمثل بعدم التدخل، بطريقة تؤدي إلى هزيمة عدويها اللدودين: إيران وحزب الله. ليضيف: انتهى الزمن الذي كان يمكن لـ"إسرائيل" مراقبة ما يحدث في سوريّة وأنْ تتمنى النجاح للمتحاربين، إذْ يجب عليها الآن ألّا تضيع فرصة إضعاف أعدائها الأكثر مرارة. المناورات الأخيرة في مرتفعات الجولان لكتيبة جولاني تحاكي كلام يدلين، وتهدف لضرب الجيش السوري وحلفائه تحت ذريعة تعاونه مع الجماعات التكفيرية، لاسيّما تنظيم داعش الإرهابي. "مواجهة تهديد تنظيم داعش الإرهابي في الجولان، مثل "شهداء اليرموك"، (والذي لم يطلق رصاصة واحدة على الجانب الإسرائيلي حتّى الساعة)، وهكذا بإمكاننا أنْ نثبت أنّه يمكن محاربة الأسد في موازاة محاربة داعش"، حسب يدلين.
الفرص والتحدّيات
رؤية يدلين، التي لها من يؤيّدها ويعارضها في أركان القيادة الإسرائيلية، تعني إستدراج الجانب الإسرائيلي للأزمة ما قد تزيد الأمور تعقيدا بالنسبة لها مع غياب فترة الإستراحة القائمة منذ بداية الأزمة.
إن المساس الإسرائيلي المباشرة في الجنوب السوري سيفتح عدّة جبهات، تبدأ من الجيش وحلفائه، لتمرّ عبر الجماعات المسلّحة المستهدفة، وقد تصل إلى الدروز الذين يقطنون تلك المنطقة، مما يعني ردّ فعل للدروز الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي وأجهزتها الأمنية، إلا أننا لم نعتد أن تتصرّف السلطات الإسرائيلية بعقلانية تمنعها من الخوض في المغامرات غير محسوربة النتائج.
في الخلاصة، تعد السلطات الإسرائيلية أكثر الأطراف تكبيلاً في الجنوب السوري، خاصّة مع دخول حزب الله وإيران، التي بدورها أدخلت روسيا، في الأزمة السورية. الجيش السوري وحلفائه يكرّسون خبرات عسكرية ضخمة، ستستخدم في يوم ما ضد الجيش الإسرائيلي، ولعل هذا الأمر أحد مصاديق كلام الأمين العام الحزب الله السيد نصرالله بأن طريق القدس يمرّ من سوريا.