الوقت- مع بداية العشرية الثانية من الألفية الثالثة، شهد العالم العربي ثورات شعبية اختلفت مسمياتها بين صحوة اسلامية وربيع عربي هدفها واحد هو التغيير، لكن للأسف لو وضعنا حصيلة السنوات الأربع من الانتفاضات في ميزان ما تحقق سياسيا اقتصادياً واجتماعياً، لأذعنا بأن المحصول كان ضئيلا، ودون المستوى، بل أنه لا يستحق كل تلك التضحيات التي قدمت بالميادين والساحات.
يبدو الحديث عن النتائج النهائية للثورات العربية حالياً من باب الترف الفكري، الذي لا يسمن واقعاً ولا يغني مستقبلاً، لذلك أريد أن أتحدث اليوم عن ربيع عربي هزم في بعض جولاته، لكنه لم ينته، اتحدث عن تحول الثورة السورية السلمية الى تنظيم ارهابي أفسد المشهد كله في العراق والشام، أتحدث عن فوز حزب الثورة المضادة في الانتخابات التشريعية التونسية، أتحدث عن صدمة اعلان براءة الرئيس الأسبق حسني مبارك وأعوانه في مصر، والاحتراب الأهلي في ليبيا، وظهور علي عبد الله صالح كأحد اللاعبين الرئيسيين في اليمن، وغياب الثورة السلمية في البحرين عن أذهان اخوانهم الثائرين على الظلم في جوارهم العربي.
شواهد الانتكاسات والهزائم سوغت للبعض أن يعلن على الملأ وفاة الربيع العربي وطي صفحته كخريف وخراب عربي، رغم هذا لا تعني هذه الانتكاسات نهاية الثورات العربية أو ربيع الشعوب، خاصةً اذا تعلمنا مما مررنا به دروساً بأخطائنا لنعالجها، وليس نعياً لأهداف شعوبنا، وبالتالي تحويل هذا التهديد الى فرصة ثمينة تنفض غبار أربع سنوات من الضياع.
أسباب الفشل:
أ- غياب القائد:
تميزت ثورات المنطقة أن الشعب هو الذي فجرها ثم قادها، وليس السياسيون، وبالتالي كشفت هذه الثورات مدى حاجتها الى رجال أكفاء يقودنها الى بر الأمان ولعل الثورة الاسلامية في ايران خير مثال يحتذى به لسببين، أولاً طبيعة ثورتها الاسلامية فقد اتخذت من المساجد منطلقا وهذا ما حصل في الربيع العربي، وثانياً وجود قائد فذ منع تكرار سيناريو شاه ايران مع مصدق. وإذا طالعنا كافة الثورات نلاحظ بادئ ذي بدء فقدان "الزعيم" بالمعنى المعروف لهذه الكلمة، فما توفر في ساحات هذه الدول داخلياً أم خارجياً على السواء، مجموعة من المثقفين وغير المثقفين الذين كانوا معروفين أو غير معروفين بمناوأتهم للنظام في بلادهم ولكن دون أن تبرز بينهم "زعامة" أو "قيادة" يلتفت إليها الشعب ليمشي خلفها وتكون البوصلة التي ترفض إملاءات الخارج ولا تنحني إلا لمصالح الثورة والوطن.
ب- انعدام الرؤية:
طرحت في بداية الثورات العربية شعارات براقة كان أبرزها "الشعب يريد.. " و"ارحل"، وبما أن ارادة الشعوب لا تقهر كان للشعب ما أراد، لكن الاكتفاء بشعار "الشعب يريد.." الخالي من أي مضمون لم يؤد إلا إلى إشاعة الفوضى والخراب، وكشف عن انعدام أي رؤية واضحة ناهيك عن غياب البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالشعب لا يهمه من يحكم وإنما كيف يحكم.
ت- المؤامرة الأمريكية:
لا يخفى على ذو لب فطن إن كثيرين من الغربيين -خصوصا الأميركيين منهم والإسرائيليين-عبّروا عن استيائهم من الثورات العربية، معتبرين أن الأوضاع في العالم العربي ازداد سوءاً، واعتبر آخرون أن الربيع جلب أنظمة إسلامية زادت من مشكلات المجتمعات العربية، لكن امريكا التي دعمت الحكام العملاء 30 عاما في المنطقة تدرك جيداً أن ارادة الشعوب لا تقهر، لذلك حاولت الالتفاف على هذه الثورات وسجلت نجاحاً باهراً على عدّة صعد.
لعل أفضل تصور للموقف الأميركي هو ما كتبه المنظر الاستراتيجي أدوارد لوتواكْ(أمريكي من أصل يهودي) يوم 24 أغسطس/آب 2013 في صحيفة نيويورك تايمز، ففي مقال بعنوان (في سوريا: ستخسر أميركا إذا كسبَ أيٌّ من الأطراف) كتب لوتواك "إن الاستنزاف الطويل الأمد في هذه المرحلة من الصراع هو المسار الوحيد الذي لا يضرُّ المصالح الأميركية"، وختم بنصيحة لصانع القرار الأميركي قال فيها "سلِّحوا المتمردين كلما بدا أن قوات السيد الأسد في صعود، وأوقِفوا دعمهم كلما بدا أنهم سيكسبون المعركة". وبالفعل هذا هو حالنا اليوم في سوريا.
للأسف ان النجاح الأكبر للمؤامرة الأمريكية تمثل في صناعة بعض التنظيمات التكفيرية المتطرفة(داعش واخواتها) واعطائها صبغة اسلامية أولاً لترويع الشعوب وبالتالي اللجوء الى "المنقذ الأمريكي" الذي بدوره سيرسم مسار المنطقة على أساس مصالحه، ثانياً محاربة الاسلام السياسي أو الحكم الاسلامي لأن ذلك يعرض المصالح الأمريكية والكينونة الاسرائيلية للخطر وثالثاً مواجهة المد الاسلامي في الغرب بعد تحذيرات من الانتشار الواسع لاسلام الرحمة.
في ظل أسباب الفشل التي ذكرت أعلاه، لا بد من طرح رؤية جديدة للخروج من مأزقنا، فليس ثمة حل سحري لجميع مشاكلنا، لذلك نحن بحاجة الى نخبنا الوطنية لطرح حلول تنطلق من الواقع وليس من الخيال، طروحات بعيدة عن الشعارات البراقة والتبسيطية، تتضمن برامج اقتصادية واجتماعية وفكرية تعالج العلة التي نعرفها جميعاً، وما نراه مفيدا ان نقدمه في الظروف الراهنة هي:
أولاً: ان نهضة الشعوب هي في الواقع حرب بين الارادتين ، ارادة الشعب وارادة اعداءه، وكل جانب كان اكثر واقوى عزما واكثر تحملا للصعاب فهو منتصر حتما.
ثانياً: العدو يحاول بث اليأس من تحقيق اهدافكم ويسعى بممارسة القوة والخداع ان يوهن من ارادتكم ، فاحذروا من ضعف ارادتكم، وما هذه التيارت التكفيرية الا خدعة جديدة لضرب الاسلام وثورات الشعوب معاً.
ثالثاً: ان سلاح الشعوب المهم في مواجهة الطغيان والحكام العملاء هو الاتحاد والانسجام.
رابعاً: لا تثقوا بما يلعبه الغرب واميركا من الدور و ما يقومون به من مناورات سياسية في نهضتكم ، هؤلاء يسعون ان يبدلوا عميلا بعميل و ان يسلطوا الاضواء على بعض الوجوه ليفرضوا سيطرة عملاءهم على الشعوب، فالغرب دون شك يسعى إلى أن یبدّل الثورات إلى ثورات مضادّة، ویحاول فی النهایة أن یرمّم النظم القدیمة بأسلوب جدید، لیبُقي سیطرته على العالم العربي لعشرات أخرى من السنین.
خامساً: الظرف يتطلب من علماء الدين ان ينهضوا بدورهم بشكل بارز ويقودوا الشباب خاصةً بعد اجتياح التيارات التكفيرية لساحات الثورات، فحين يبدأ الشعب ثورته من المساجد ومن صلوات الجمعة ويرفعوا شعار الله اكبر، فان متوقع من علماء الدين ان يتخذوا موقفاً بحجم التحدي.
والى المفكرين والنخب أقول: أنتم الیوم ترثون دماء آلاف الشهداء وعشرات الآلاف ممن عانوا زنزانات السجون والنفي والتعذیب، وما بذله المجاهدون والمناضلون ممن قدموا التضحیات خلال عقود متوالیة في انتظار بزوغ فجر انتصارات الشعوب.
خاتمه:
باختصار، إن الأسباب التي قادت إلى تفجر الثورات العربية منذ أواخر عام 2010 لم تزل قائمة، بل انها آخذة في التجذر أكثر فأكثر، لأن الربيع العربي هو بمثابة روح جديدة سرت في جسد الأمة اتخذت من بيوت الله منطلقا، وحتى لو أن الناس انتكسوا مرة أو أكثر، فان هذه الروح لن تمت انما تنتظر قرار البعث من جديد، وما هذه النصائح التي قدمتها الا بعض مما وجّهه قائد الثورة الاسلامية في ايران اية الله خامنئي للشعب المصري في بداية الأزمة عام 2011 . رحلة الخلاص طويلة وشاقة لا يتوقع إنجازها خلال فترة قصيرة وهي بحاجة الى قائد يشرف على برنامجها، فنحن اليوم نشهد لحظة من اللحظات التي يكون فيها التاريخ على مفترق الطريق، وقد علمنا هذا التاريخ أن إرادة الشعوب لا تقهر.