الوقت- في مطلع هذا الأسبوع، ومن قاعدة “فوستوتشني” الروسية، انطلقت الأقمار الصناعية الإيرانية "بايا (طلوع 3)" و"ظفر 2" و"كوثر 1.5"، على متن صاروخ “سويوز”، لتُوضع في المدار الأرضي المنخفض على علو يقارب الخمسمئة كيلومتر، وكان هذا الحدث إيذانًا بالسابعة ضمن سلسلة التعاون الفضائي بين طهران وموسكو، دليلًا ناطقًا على عمق الشراكة التقنية والصلات الاستراتيجية بين الدولتين، رغم تقلبات السياسة وتعاقب الأحداث.
ويُعدّ القمر الصناعي “بايا” أثقل أقمار إيران وأعظمها تطورًا في ميدان الرصد، بوزنه البالغ مئةً وخمسين كيلوغرامًا، وقدرته على التقاط صور بدقة خمسة أمتار بالأبيض والأسود، وعشرة أمتار بالألوان، ومُزمع استخدامه لأغراض بيئية وزراعية ومراقبة الثروات الطبيعية، غير أنّ وراء الأفق مآرب أخرى، تتعدّى الزراعة والمراعي لتبلغ ساحات الاستراتيجية العظمى والصراعات الكونية.
وما أكسب الحدث وقعًا أعمق وتأثيرًا أفعل، تزامنه مع زيارة رئيس وزراء كيان الاحتلال “بنيامين نتنياهو” إلى الولايات المتحدة، حيث التقى بالرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، متباحثَين بشأن البرنامج الصاروخي الإيراني وقضايا الشرق الأوسط الملتهبة، فكان إطلاق ثلاثة أقمار دفعةً واحدةً بمثابة رسالة مدوّية، مؤدّاها أنّ إيران، وبعيدًا عن الضجيج السياسي ماضيةٌ في تعزيز قدراتها، بلا كللٍ ولا وجل.
قلقٌ صهيونيّ يتصاعد واستنفار في الأوساط الأمنية
وما كاد الدخان يتصاعد من أجنحة الصاروخ في الأفق، حتى بدأت دوائر الأمن الصهيوني ترتجف، فقد قرؤوا في هذا التعاون بين طهران وموسكو إعلانًا مبطنًا بالتمرّد على محاولات تل أبيب وواشنطن فرض ميزان قوى جديدة في المنطقة، عقب الحرب التي استمرّت اثني عشر يومًا وألقت بظلالها الثقيلة على الإقليم بأسره.
فحسب تصريحات المسؤولين الصهاينة، فإنّ طهران تبعث - من خلال هذا الإنجاز الفضائي ـ برسالة مضمرة تقول إنّها لن تخنع لمنطق القوة، ولن تسلّم بميزان مختلّ تحاول واشنطن وتل أبيب فرضه بالقهر، بل إنها تمضي قدمًا في ترسيخ حضورها الجيوسياسي كرقم صعب لا يُتجاوز.
صحيفة “أورشليم بوست” العبرية ما لبثت أن نثرت فوق ركام القلق الصهيوني نارًا من التحليلات الساخنة، إذ عدّت إطلاق الأقمار الثلاثة تهديدًا مباشرًا لأمن الكيان، وأشارت إلى أنّ هذه الخطوة - برغم طابعها العلمي الظاهري - تحمل في طيّاتها ثلاث مخاطر كبرى، لكلٍّ منها وقعٌ بالغ في موازين القوى الإقليمية، وقد يهبّ بها رياح التغيير لمصلحة طهران.
أمّا الخطر الأول، حسب الصحيفة فمرتبط بإمكانية استخدام تقنيات إطلاق الأقمار في تطوير الصواريخ البالستية عابرة القارات، حيث تتداخل هذه المجالات تقنيًا إلى حدّ التماهي، فيكون التطوير الفضائي منطلقًا لصناعة الصواريخ العابرة للحدود والقارات، ما يزيد الهواجس الغربية والاحتلال معًا.
لكن الخطر الأعظم، في تقويم الصحيفة الصهيونية، هو تجلّي الاستخدام الاستخباراتي لتلك الأقمار، إذ قد تمنح إيران - عبر التعاون الروسي - قدرةً مضاعفةً لرصد التحركات العسكرية داخل كيان الاحتلال، وتعقّب وحداته، وجمع المعلومات الدقيقة عن البنية التحتية الدفاعية.
وقد شددت “أورشليم بوست” على أن هذه المسألة تمثّل جرحًا نازفًا في خاصرة تل أبيب، ولا سيما بعد أن كانت الأقمار الصناعية الإسرائيلية - المدعومة بمنظومات أمريكية متفوقة - تمنحها ميزةً تجسسيةً ساحقةً خلال الحرب الأخيرة، سهلت لها توجيه الضربات الدقيقة وإجهاض المفاجآت المحتملة.
الصحيفة ذاتها دقّت ناقوس الخطر، قائلةً: "الميزة الاستخباراتية الساحقة التي امتلكتها إسرائيل في الحرب الأخيرة مستمدّة من أقمارها الصناعية، فإنْ استطاعت إيران، عبر دعم موسكو، أن تردم هذه الهوّة، فإنّ أي اشتباك قادم سيُدار على أرضٍ متقاربة، ما يعني تعاظم الأخطار وتزايد مكامن الضعف والانكشاف بالنسبة لإسرائيل".
وبعبارةٍ لا مواربة فيها، تُقرّ صحيفة أورشليم بوست بأنّ اختلال ميزان الهيمنة في ميدان الرصد الفضائي ينعكس وبالًا على الكيان الصهيوني، إذ إنّ السيادة المعلوماتية كانت ولا تزال إحدى دعائم استراتيجيته العسكرية ورأس ماله في خوض الحروب وإفشال المباغتات، وإذا ما تهاوت هذه القوة، فإنّ تكلفة أيّ صدامٍ مرتقب قد تصبح باهظة الثمن، عسيرة الاحتمال.
ثم تمضي الصحيفة الصهيونية في كشف ما تختلج به صدور قادة تل أبيب من قلقٍ بالغ حيال التحالف الفضائي الناشئ بين موسكو وطهران، مشيرةً إلى أنّ هذا التعاون ليس محض تقاربٍ عابر، بل بوابةٌ لتعاظم قدرة إيران في ميدان الصواريخ بعيدة المدى، وأداة فعّالة لتعزيز رقابةٍ فضائية متقدمة تمتدّ من عمق فلسطين المحتلة إلى أقاصي المنطقة.
وهكذا، تتمكّن إيران، بعينٍ لا تنام في السماء، من تتبّع التحركات الروتينية لجيش الاحتلال، والتقاط صورٍ دقيقة للمنشآت الحساسة والبنى العسكرية ومراكز القيادة، الأمر الذي يُعقّد خطط الدفاع الصهيونية ويُربك حسابات تقدير المواقف.
ومن بين هواجس الكيان المتزايدة، تشير الصحيفة إلى خطرٍ ثالث داهم يهدّد جوهر عمل استخباراته، ويتمثل في تقلّص هوامش المناورة والاختراق داخل العمق الإيراني، إذ ترى أورشليم بوست أن الأقمار الإيرانية المطوّرة بالتشارك الروسي، تمنح طهران قدرةً أعظم على رصد المحيطات البرية والجوية والرقمية المحيطة بها، ما يُصعّب تنفيذ عمليات التسلّل الصهيونية الرامية إلى تعطيل المشروع النووي الإيراني، كتصفية العقول، والضربات السيبرانية، والمهام التخابرية المعقّدة.
وتُحذر الصحيفة من أنّ تعزيز إيران لمتابعتها الحدودية عبر تقنيات فضائية سيجعل من اختراقها مغامرةً محفوفةً بالمخاطر العالية، بل يكاد يجعلها أمرًا متعذّرًا، قياسًا إلى ما كان متاحًا للکيان من أدواتٍ تسلّلية في سنواتٍ خلت.
وتلفت الصحيفة، في سياق تحليلها، إلى أنّ هذه المخاوف ليست وليدة اللحظة، بل تستند إلى أرضية استراتيجية رسّخها تصاعد التنسيق الثنائي بين إيران وروسيا، والذي شهد في الأعوام القليلة الماضية نقلاتٍ نوعية.
وهنا تُذكّر أورشليم بوست بما نُشر في صحيفة واشنطن بوست مطلع عام 2022 حول اتفاقية مرتقبة لتسليم إيران قمرًا صناعيًا متقدّمًا يُدعى خيّام، يملك قدرة مراقبة دائمة على منشآتٍ مختلفة في غرب آسيا، من منصات النفط في الخليج الفارسي، إلى القواعد الإسرائيلية، وصولًا إلى معسكراتٍ أمريكية في العراق.
وقد شكّلت تلك الأنباء، كما تعترف الصحيفة، موجةً تشبه الإعصار في دوائر الكيان وأروقة واشنطن، إذ أدرك الطرفان أن موازين السماء توشك أن تتبدّل، واليوم، بعد إطلاق الأقمار الإيرانية الثلاثة من التراب الروسي، يرى الكثيرون أن ما كان يُخشى منه بالأمس، أضحى واقعًا متجسدًا في مدار الأرض.
وتُضيف الصحيفة العبرية ملاحظةً بالغة الأهمية: حتى إن كانت إيران قادرةً على شراء صورٍ تجارية عالية الدقة، فإن امتلاكها لأقمارٍ صناعية خالصة الصنع والسيطرة، يُضاعف استقلالها الاستراتيجي، ويمنحها سيادةً لا تُشترى بثمن، ولا تخضع لرقابة الآخرين.
إنّ مجمل ما تناولته الصحافة الصهيونية من أحاديث وقلق، يشي بأنّ إطلاق إيران لأقمارها من قلب الأراضي الروسية لا يُعدّ نجاحًا هندسيًا فحسب، وإنما لبنةٌ متقدمة في صرح استراتيجية كبرى تهدف إلى تقويض الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة.
