الوقت- تشهد الساحة الدولية اليوم تحركًا أمريكيًا لرفع العقوبات عن سوريا، وخصوصًا قانون قيصر الذي فرضته واشنطن منذ عام 2019 بذريعة محاسبة النظام السوري على الانتهاكات والجرائم بحق شعبه، هذه العقوبات التي كسرت ظهر السوريين على مدى سنوات الحرب، لم ترأف بحال المدنيين ولا بالمعاناة اليومية التي عاشوها تحت الحصار والجوع، بينما كان النظام يتابع سيطرته على البلاد، وأحيانًا "يصول ويجول" دون أن تتحرك العقوبات ضده بشكل فعلي.
عقوبات تعاقب الشعب لا النظام
القانون الذي حمل اسم "قيصر"، على شرف المصور العسكري السوري الذي سرب آلاف الصور التي وثقت التعذيب والانتهاكات في سجون النظام، لم يحقق الهدف المعلن منه، فالعقوبات لم تطال صناع القرار وحدهم، بل طالت الشركات، المؤسسات، وحتى المدنيين، فانهار الاقتصاد، وانهارت معيشة السوريين، وأصبح البحث عن لقمة الخبز والدواء تحديًا يوميًا، بمعنى آخر، العقوبات الأمريكية كرست حالة المعاناة للشعب، بينما لم تغير كثيرًا من واقع السلطة أو النظام، ما يثير تساؤلات حول جدوى هذه السياسات.
الصفقة الجديدة ورفع العقوبات
اليوم، وبعد سقوط النظام السابق ووصول تنظيم جديد بقيادة الجولاني، تحاول واشنطن تقديم نفسها كمناصر للشعب السوري، من خلال تضمين بند رفع عقوبات "قيصر" في مشروع قانون تفويض الدفاع الوطني الشامل، هذا التحرك الذي أدرج في النسخة التوافقية لمشروع القانون، والذي صوّت مجلس النواب لصالحه، يحمل في ظاهره دعماً للشعب السوري بمناسبة الذكرى الأولى لسقوط النظام، لكنه في العمق يثير تساؤلات استراتيجية: ما هي الصفقة الرابحة التي تدفع الولايات المتحدة لتخفيف الضغط عن شعب استنفد كل طاقاته خلال سنوات الحرب والحرمان؟
الشعب ذاته… والمعاناة المستمرة
المفارقة الكبرى تكمن في أن الشعب السوري لم يتغير رغم سقوط النظام، المعاناة الاقتصادية نفسها، ونقص الخدمات الأساسية، والانقسامات الداخلية، ما زالت قائمة، بينما يُرفع الغطاء السياسي على العقوبات، هل يعني هذا أن الهدف الحقيقي من العقوبات كان الضغط على السلطة السياسية لا حماية المدنيين؟ أم إن واشنطن اليوم ترى فرصة لتوظيف رفع العقوبات كورقة سياسية في صفقات إقليمية جديدة؟
الشروط الأمريكية وقيود النفوذ
يشترط البند الجديد على الحكومة الأمريكية تقديم تقارير دورية تثبت أن سوريا تحارب تنظيم "داعش"، وتحافظ على حقوق الأقليات، وتتجنب الإجراءات العسكرية غير المبررة ضد جيرانها، بما في ذلك "إسرائيل"، هذه الشروط توضح أن رفع العقوبات ليس دعمًا مطلقًا للشعب، بل إعادة ضبط النفوذ الأمريكي في المنطقة، وتأمين مصالحه الاستراتيجية بعد تغيّر السلطة في دمشق.
السيناريوهات الإقليمية المحتملة بعد رفع قانون قيصر
رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا قد يفتح الباب أمام سلسلة من التحولات الإقليمية والسياسية المحتملة، التي تتجاوز حدود دمشق لتطال توازن القوى في الشرق الأوسط، أحد السيناريوهات المحتملة هو محاولة واشنطن استخدام رفع العقوبات كورقة ضغط على الأطراف الإقليمية والدول الحليفة لسوريا، بما فيها إيران وروسيا، لإعادة ضبط النفوذ والسيطرة على التحركات العسكرية والسياسية في المنطقة، كما قد يشجع ذلك بعض الدول العربية على إعادة تقييم علاقاتها مع دمشق، سواء من الناحية الدبلوماسية أو الاقتصادية، في ظل انسحاب جزئي للعقوبات الأمريكية.
من جهة أخرى، قد يؤدي رفع قانون قيصر إلى توقعات دولية بتسهيل وصول المساعدات الإنسانية والاستثمارات، ما يمنح الولايات المتحدة القدرة على صياغة دور رقابي وسياسي مباشر على إعادة الإعمار، وتحديد من يستفيد ومن لا يستفيد، بما يعزز مصالحها الاستراتيجية في سوريا والمنطقة، كما يمكن أن يُستثمر رفع العقوبات كأداة لمواجهة النفوذ الروسي والإيراني في سوريا، عبر إدخال دمشق ضمن مسار دبلوماسي خاضع لشروط واشنطن، أو كجزء من صفقة إقليمية أوسع تتعلق بالملف السوري والصراع في الجوار اللبناني والفلسطيني.
باختصار، رفع العقوبات ليس مجرد قرار اقتصادي أو إنساني، بل خطوة استراتيجية متعددة الأبعاد، تحمل في طياتها رسائل للفاعلين الإقليميين والدوليين حول إعادة توزيع النفوذ، مع إبقاء الشعب السوري رهينة التوازنات الكبرى التي لا يملك التحكم فيها، من جهة أخرى يبقى رفع العقوبات قرارًا أمريكيًا محسوبًا ضمن التوازنات الإقليمية، مع مراعاة مصالح كيان الاحتلال الاسرائيلي الأمنية والسياسية، وليس مجرد دعم للشعب السوري كما يُسوَّق إعلاميًا.
عقوبات قيصر… إرث طويل من الألم
على مدى سنوات، عانى السوريون تحت وطأة قانون قيصر، إذ فُرض الحصار على قطاع واسع من الاقتصاد السوري، وعرّض السكان المدنيين لمجاعة نسبية وفقدان الخدمات الأساسية، كل هذه المعاناة لم تُلقِ بظلالها على النظام بشكل مباشر، بل صبّت الألم على المواطنين الذين أصبحوا مجبرين على مواجهة الحرمان، الجوع، والاضطراب الاجتماعي في وقت لم يزدد فيه النظام إلا قوة واستقرارًا نسبيًا.
تساؤلات استراتيجية وأخلاقية
رفع العقوبات اليوم يحمل رسالة مزدوجة: من جهة، يمثل اعترافًا جزئيًا بمعاناة الشعب السوري، ومن جهة أخرى، يضع أسئلة استراتيجية وأخلاقية حول السياسة الأميركية في المنطقة، لماذا يُعاقب الشعب لا النظام؟ وما هي المصالح الحقيقية وراء رفع العقوبات الآن؟ وما هي الصفقة التي تسعى الولايات المتحدة لتحقيقها عبر هذا التحرك؟ يظل الشعب السوري في قلب هذه اللعبة الدولية، مستنزفًا ومرهقًا، بينما تحاول القوى الكبرى إعادة ترتيب أوراقها على حساب من دفع الثمن الأكبر طوال سنوات الحرب.
