الوقت- يكشف اللقاء السري بين بنيامين نتنياهو وتوني بلير عن انزلاق جديد وخطير في مسلسل "تصفية غزة". إن اختيار بلير، الشخص الذي يشرف على ملف غزة بنوايا مبيتة منذ سنوات، ليس صدفة. إنه مؤشر واضح إلى رغبة إسرائيل في توظيف شخصية دولية تحمل تاريخًا من التخلي عن القضايا العربية والشعب الفلسطيني، من أجل تمرير رؤيتها الاستعمارية لما بعد الحرب.
هذا اللقاء لا يرمز إلى رغبة بإصلاح، بل إلى دفن قضية غزة، وإعادة إنتاج احتلال جديد من خلف طاولة دبلوماسية. نتنياهو، الذي يواجه ضغوطاً داخلية وخارجية، وسخطًا على استمراره في الحرب الكارثية على سكان غزة، يدور حول نفسه بحثًا عن غطاء دولي يُخفف عزلته ويمنح مشروعه شرعية ولو كانت على حساب دماء آلاف المدنيين ودمار مدن.
تيه نتنياهو بمأزق "اليوم التالي"
نتنياهو اليوم يعيش مأزقًا حقيقياً: لا خطة واضحة، لا رؤية إنسانية، ولا مستقبل مقبول لغزة. سياساته منذ عقود اعتمدت على إدارة الصراع وليس حلّه بدء من الحصار، والتهجير، والتدمير، انتهاء بإعادة احتلال بزعم "إعادة الإعمار". الآن، مع الضغوط الأميركية- الأوروبية لتقديم تصور لما بعد الحرب، وجد نتنياهو في الاجتماع السري مع بلير متنفسًا: محاولة لتليين الموقف الدولي عبر استخدام شخص مستهلك تاريخيًا باسم "الوسطية"، لتمرير فكرة حكم جديد لغزة لا يقل سوءاً من الاحتلال الفعلي.
لكن سجل نتنياهو الأسود في غزة؛ من حصار طويل، تدمير ممنهج، تهجير جماعي، ورفض كل مسار يفضي إلى حرية أو كرامة فلسطينية يجعل أي تصور يطرحه مرفوضًا أصلاً.
من هو توني بلير وماذا يعني حضوره؟
بلير ليس شخصاً عابراً في هذه الدوامة. هو من قاد عبر سنوات ممارسات سياسية خائبة: من دعم حروب على شعوب عربية (خصوصًا في العراق) ووصاية غربية تحت شعار «الديمقراطية»، إلى ممارسة ريادة إملائية باسم «السلام» والسيطرة. اليوم، يقود مقترحاً لـ«هيئة دولية انتقالية لغزة» تكون بإدارته المباشرة.
هذه الهيئة، بحسب الوثيقة المسربة، ستتولى السلطات التنفيذية، التشريعية، والقضائية في غزة لعدة سنوات (3–5 سنوات)، قبل «تسليم» القطاع إلى «سلطة فلسطينية إصلاحية» منقّحة، وعلى أرضية مفروضة من الخارج.
المؤسف أن هذه الخطة تأتي تحت مظلة «إعادة إعمار» و«دعم إنساني»، لكنها في جوهرها وصاية من جديد؛ وصاية تخترق حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وتهدف لتصفية الهوية الوطنية لغزة عبر إدارة غربية/صهيونية ـ أميركية.
غـزة: بين جراح الحرب ومحاولات تصفية الهوية
أين هم سكان غزة في هذا الحوار؟ هم ما زالوا تحت برادي مرعبة: حصار خانق، دمار شامل، خسائر بشرية فادحة، تهجير، نقص غذاء وماء، وانهيار شبه كامل في البنى التحتية. الحديث عن «إعادة إعمار» قبل رفع الحصار، قبل ضمان عودة أهاليها، قبل إنهاء الاحتلال، هو استهزاء بمصائب شعب، ومحاولة لتبييض جرائم تحت ستار «إدارة» و«إعادة بناء».
خطط بلير ومدبّروها لا تُعِدّ غزة لحياة كريمة، بل تُعِدّها لإدارة ذليلة تحت تبعية كاملة، تهدف إلى القضاء على أي مقاومة أو عودة فلسطينية حقيقية.
لماذا هذه المبادرة تُعد خيانة للقضية الفلسطينية؟
1. لأنها تستبدل حق الفلسطينيين في حكم أنفسهم بحق توصّيه احتلالي باسم «إعادة إعمار» و«استقرار».
2. لأنها تُهمل الحقوق المشروعة لسكان غزة: حق العودة، تعويض، بناء ديمقراطي، حرية حركة، وتقرير مصير.
3. لأنها تنسف أي أمل باتحاد حقيقي بين غزة والضفة وتهدف لتكريس انفصال دائم يُسهّل التطبيع وسياسات الترضية مع المحتل.
4. لأنها تعزز السيطرة الإسرائيلية ـ الغربية ـ الأميركية على القرار الفلسطيني، وتُكرّس الهيمنة بدلاً من التحرير.
ماذا يعني هذا اللقاء والاقتراح في الواقع؟
من خلال هذا الاجتماع مع بلير، يحاول نتنياهو تمرير وصفة «غزة مُدارة» بدل التحرير، وصفة تُلبس رداء «السلام» لكن جوهرها احتلال جديد، سياسي واقتصادي وثقافي. إنه احتلال بإدارة وسيطرة أجنبية، تتماشى مع مصالح الإستعمار والاستيطان.
لكن الحقيقة التي لا يمكن أن تُغَطّى بالبرقيات والمفاوضات: شعب غزة جسدٌ حيٌّ، له كرامة، له حق مقاومة، وله حق تقرير مصيره. أي «خطة سلام» أو «إعادة إعمار» تُطرح خارج إرادة هذا الشعب، هي خيانة للقضية، وليست حلاً.
في نهاية المطاف، يعكس اللقاء السري بين نتنياهو وبلير إدراكاً ضمنياً بأن مستقبل غزة لن يرسمه طرف واحد، وأن "إسرائيل" رغم قوتها العسكرية تحتاج إلى توافقات إقليمية ودولية، غير أن السياسات التي اتبعها نتنياهو طوال سنوات حكمه، بما فيها تشديد الحصار وإهمال الملفات الإنسانية وتبني مقاربة أمنية بحتة، ساهمت في تعقيد المشهد بدلاً من حله. ومن دون تغيير جوهري في الرؤية الإسرائيلية، سيظل الحديث عن “اليوم التالي” مجرد نقاشات نظرية لا تقترب من واقع القطاع ولا من تطلعات سكانه، إن مستقبل غزة يتطلب معالجة سياسية عميقة، ورؤية عادلة، وشراكة حقيقية مع الفلسطينيين، وهي عناصر لطالما غابت عن سياسات نتنياهو، ما يجعل نتائج لقائه مع بلير مجرد خطوة في سلسلة طويلة من محاولات الالتفاف على الأزمة بدلاً من حلّها جذرياً.
