الوقت- بعد زيارة الرئيس السوري المؤقت، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، الشهر الماضي إلى موسكو، والتي بدت ظاهريًا اجتماعًا سياسيًا عاديًا، بدأت أبعادها الحقيقية والاستراتيجية تتضح تدريجيًا.
تشير التقارير المنشورة في الأيام الأخيرة إلى أن موسكو ودمشق تُمهدان الطريق لإعادة بناء العلاقات السابقة وإحياء الوجود الميداني الروسي في المناطق التي كانت خارج السيطرة الروسية بعد سقوط حكومة بشار الأسد.
في هذا السياق، أفادت مصادر إخبارية سورية ووسائل إعلام عبرية بتوصل مسؤولين روس إلى اتفاقات مع الحكومة السورية المؤقتة بشأن إعادة إحياء الوجود العسكري الروسي في جنوب سوريا، ووفقًا لهذه التقارير، من المقرر أن تستأنف روسيا دورياتها في المناطق الجنوبية المحاذية للأراضي المحتلة، وتُفعّل مواقع عسكرية على طول خط التماس بين سوريا والكيان الإسرائيلي، وهي مواقع لعبت دورًا مهماً في عهد بشار الأسد في احتواء التوترات ومنع الاشتباكات المفاجئة بين دمشق وتل أبيب.
أُعلن عن الاتفاق بالتزامن مع زيارة وفد عسكري روسي إلى جنوب سوريا، والتي أُبقيت تفاصيلها، بما في ذلك موعدها الدقيق وتشكيلة الحاضرين، طي الكتمان عمدًا لتقليل حساسية الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة، ومن بنود الاتفاق أن تُعزز روسيا مجددًا حماية قاعدتيها في "حميميم وطرطوس" واستخدامهما كمركزي دعم لوجستي للمهام في جنوب سوريا.
بالإضافة إلى ذلك، تسعى موسكو إلى استئناف دورها كوسيط بين دمشق والأقلية العلوية في اللاذقية، والتي استطاعت في السنوات السابقة السيطرة على بعض الانقسامات الداخلية في المناطق الساحلية.
ومن بنود الاتفاق تدريب قوات الجيش السوري، الذي سيتولى تنفيذه مستشارون روس، وتتحمل السعودية تكاليفه، كما تُعتبر وساطة موسكو بين دمشق والأكراد لحل الخلافات بندًا آخر من بنود الاتفاق، تشير كل هذه التطورات إلى أن روسيا تعيد بناء شبكة نفوذ في سوريا تشمل أبعادًا عسكرية وسياسية واجتماعية.
تجدر الإشارة إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أجرى مؤخرًا محادثة هاتفية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، طُرحت خلالها أيضًا قضايا متعلقة بسوريا، ما يُظهر حرص تل أبيب على التوسط في التحركات الروسية الأخيرة.
قبل سقوط بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، لعب الروس دور الوسيط بين دمشق وتل أبيب في المناطق الجنوبية، ولكن بعد وصول الجماعات المسلحة إلى السلطة، انسحبوا تمامًا من المنطقة، لذلك، من وجهة نظر حكام دمشق، فإن عودتهم، حتى وإن كانت محدودة، قد تُغير المعادلات الأمنية في جنوب سوريا.
فشل الجولاني في صد تل أبيب
لا يُمكن فصل العودة الروسية المُحتملة عن الوضع الأمني غير المُستقر في سوريا خلال العام الماضي، والذي يمرّ بأخطر مراحله الأمنية مع ظهور الجماعات المُسلحة وتقوية صفوفها.
استهدف الكيان الصهيوني سوريا بهجماته خلال العام الماضي، ودمّر جزءًا كبيرًا من بنيتها التحتية العسكرية، هذا الوضع لا يُهدد الأمن القومي وسلامة أراضي سوريا فحسب، بل يُعرّض حكومة الجولاني المؤقتة، التي لم تُرسّخ سلطتها بعد، للخطر الشديد، لذلك، يبدو أن دمشق قد توصلت إلى استنتاج مفاده بأنها غير قادرة على إيجاد رادع فعّال ضد الكيان الصهيوني دون الاعتماد على قوة خارجية.
كان الجولاني يأمل في وقف الهجمات الصهيونية وتعزيز شرعيته في الداخل من خلال توقيع اتفاقية أمنية مع الكيان الصهيوني، كانت زيارته إلى واشنطن ولقاؤه بدونالد ترامب محاولةً في هذا الاتجاه، إلا أن نتائج التطورات الأخيرة تُظهر أن جهوده لم تُكلَّل بالنجاح.
وكان أحد الأسباب الرئيسية لهذا الفشل تضارب المصالح بين واشنطن ودمشق، إذ لم تُمارس الولايات المتحدة، بصفتها حليفًا وثيقًا للكيان المحتل، أي ضغط يُذكر على حكومة نتنياهو، وانصبت مواقفها في الغالب على الصهاينة، إضافةً إلى ذلك، أظهر الاستقبال البارد نسبيًا من دونالد ترامب للجولاني في البيت الأبيض أن الوعود السياسية التي قطعتها واشنطن كانت فضفاضة وفارغة، ولا يُمكن أخذها على محمل الجد.
ويُظهر وجود كبار المسؤولين الأمنيين والسياسيين الصهاينة في الأراضي السورية المحتلة، واستمرار الهجمات، أن واشنطن وتل أبيب غير مستعدتين لتقديم أي تنازلات لتعزيز موقف الجولاني.
في ظل هذه الظروف، يتطلع الجولاني، بدوافع مختلفة، إلى روسيا طلبًا للمساعدة، آملًا أن يُسهم وجود موسكو في خلق نوع من التوازن في مواجهة عدوان العدو الصهيوني، يستند هذا النهج إلى تجارب سابقة، حيث ساهم وجود القوات العسكرية الروسية في جنوب سوريا في تخفيف حدة التوتر.
ويأتي هذا التوقع في ظل فشل المفاوضات الأمنية بين الحكومة المؤقتة وتل أبيب، والتي كان من المفترض أن تؤدي إلى خفض هجمات العدو، بسبب التجاوزات الصهيونية، في هذا الوضع الصعب، يأمل الجولاني أن تتمكن روسيا من حل بعض المشاكل الأمنية بدخولها، وأن تُسهم في استقرار الوضع في سوريا قليلًا.
روسيا لا تستطيع الوقوف بوجه تل أبيب
يُظهر تحليل التطورات الراهنة في المنطقة مقارنةً بالماضي أن الوضع قد اختلف تمامًا، وأن الاعتماد على القوى الخارجية لحل المشكلات عمليًا أمرٌ بالغ الصعوبة، وبالتالي لا تستطيع روسيا مساعدة دمشق في هذا الوضع المتوتر لأسبابٍ مُتعددة.
أولًا، ترى حكومة نتنياهو المُتطرفة في الأزمات الأمنية في المنطقة فرصةً ذهبيةً للمضي قدمًا في مخططاتها التوسعية، ويعتقد الوزراء المُتطرفون أنه في ظل أجواء الحرب في غزة والاضطرابات في لبنان وسوريا، يُمكنهم زيادة ضغوطهم العسكرية والأمنية وتوسيع نطاق النفوذ الإقليمي للأراضي المحتلة، لذلك، حتى وجود روسيا لا يمنع هذه الحكومة المُتطرفة من مواصلة عدوانها، لأن دوافع نتنياهو الأيديولوجية وأهدافه التوسعية بعيدة المدى تتجاوز حسابات الردع التقليدية.
ثانيًا، أدت الحرب الدائرة في أوكرانيا وتعقيدات علاقات موسكو مع الكيان الصهيوني، بما في ذلك الخلافات حول دعم تل أبيب لكييف، إلى إضعاف أدوات موسكو السياسية والعسكرية للضغط على حكومة نتنياهو، لذلك، في ظل هذه البيئة الهشة، تُضطر روسيا إلى حصر وجودها في سوريا بمهام محددة ومنخفضة التكلفة، تجنّبًا للتورط في أزمة جديدة.
من ناحية أخرى، لن تسمح الولايات المتحدة وحلفاؤها بتوسيع الوجود الروسي في سوريا إلى مستوى ما كان عليه سابقًا، خلال الحرب الأهلية السورية التي استمرت 13 عامًا، كان أحد الأهداف الدائمة لواشنطن وحلفائها هو الحد من النفوذ الروسي في سوريا، والآن وقد بلغ التنافس بين الجانبين في أوكرانيا ذروته، من المنطقي أن تغتنم الولايات المتحدة الفرصة وتمنع انتعاش القوة الروسية في غرب آسيا، كما تُظهر محاولة إنشاء قاعدة في دمشق أن واشنطن تعتبر احتواء التحركات الروسية أولوية أمنية، ومن المهام المحددة لهذه القواعد تحديدًا مراقبة الأنشطة العسكرية الروسية في سوريا، لمنع موسكو من أن تصبح لاعبًا مهيمنًا في البلاد مجددًا.
مع وضع ذلك في الاعتبار، لا يمكن للجولاني الاعتماد جديًا على روسيا لتجاوز الأزمات الأمنية القائمة. بل هناك احتمال أن عودة روسيا، بدلًا من أن تكون حلاً لمشاكل دمشق الأمنية، ستُعيد سوريا إلى مفترق طرق بين الشرق والغرب بسبب التنافس المتزايد بين الولايات المتحدة وروسيا.
نتيجةً لذلك، ورغم أن عودة روسيا إلى جنوب سوريا تُعتبر نجاحًا تكتيكيًا من وجهة نظر الجولاني، إلا أنه بالنظر إلى القيود العملية لموسكو، والضغط المستمر من الولايات المتحدة و"إسرائيل"، والبنية المعقدة للأزمة السورية الداخلية، فإن التهديد بالتوجه نحو موسكو لا يمكنه أن يُثني الصهاينة عن الاحتلال ويُجبر البيت الأبيض على اتخاذ إجراء.
