الوقت- منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، تغيّرت ملامح النقاش الدولي حول مفهوم السلام والعدالة في الشرق الأوسط، فبينما كانت الحكومات الغربية لعقودٍ تتحدث عن "حل الدولتين" و"السلام العادل"، جاءت المذابح الموثّقة في غزة لتفرض تعريفًا جديدًا للسلام، يقوم على المساءلة لا النسيان، وعلى العدالة لا التسويات السياسية الفارغة.
في هذا السياق، شكّلت تصريحات رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز محطةً مهمة في التحوّل الأوروبي إزاء جرائم الاحتلال الإسرائيلي، إذ أكّد أن "السلام الحقيقي لا يمكن أن يقوم على إنكار العدالة أو تجاهل الإبادة التي ارتُكبت بحق الفلسطينيين"، داعيًا إلى تطبيق قرارات محكمة العدل الدولية بحق المسؤولين الإسرائيليين، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو.
إنّ هذا الموقف الإسباني لا يُعد مجرد تصريح سياسي عابر، بل هو تحدٍ مباشر لمنظومة الإفلات من العقاب التي حمت كيان الاحتلال الاسرائيلي منذ تأسيسه وحتى اليوم، رغم ما ارتكبه من جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب موثّقة بالأدلة والشهادات والصور.
العدالة شرط السلام
لطالما رددت حكومة كيان الاحتلال الاسرائيلي وحلفاؤها الغربيون أن "السلام هو الطريق الوحيد لإنهاء الصراع"، لكنّ الحقيقة أن السلام لا يمكن أن يكون غطاءً لطمس الجرائم أو تبرير الفظائع، فبعد عامٍ كامل من القصف، والتهجير، والتجويع، والتدمير الشامل في غزة، لم تعد المسألة قضية "نزاع سياسي"، بل تحوّلت إلى جريمة إبادة جماعية موصوفة.
وقد أكّدت محكمة العدل الدولية في قراراتها الأخيرة أن كيان الاحتلال الاسرائيلي يرتكب أعمالاً يمكن أن تندرج ضمن تعريف الإبادة الجماعية، مطالبةً بوقف العمليات العسكرية فورًا، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، ومع ذلك، تجاهلت حكومة الاحتلال هذه القرارات بشكلٍ متعمد، بل واصلت هجماتها، في تحدٍّ صريحٍ للقانون الدولي ولإرادة المجتمع الدولي.
من هنا، تأتي دعوة سانشيز لتطبيق قرارات المحكمة باعتبارها خطوة أخلاقية وقانونية ضرورية لإنقاذ مفهوم العدالة الدولية، فالسلام الذي لا يُحاسب القتلة ولا يُنصف الضحايا، هو سلامٌ زائف، يحمل في داخله بذور صراعٍ جديدٍ أكثر قسوة.
إسبانيا في مواجهة التيار الغربي
في السنوات الماضية، كانت إسبانيا من الدول الأوروبية القليلة التي حافظت على خطابٍ متوازن تجاه القضية الفلسطينية، لكنّ موقف سانشيز الأخير تجاوز حدود الدبلوماسية التقليدية، إذ وضع المساءلة القانونية لكيان الاحتلال الاسرائيلي في صلب النقاش الدولي حول السلام.
ففي خطابه الأخير أمام البرلمان الأوروبي، شدّد سانشيز على أنّ "السلام لا يعني العفو عن مجرمي الحرب، ولا يمكن للعالم أن يقبل أن تُطوى صفحة غزة دون محاسبةٍ حقيقية"، كما دعا إلى استمرار حظر بيع السلاح لكيان الاحتلال، مشيرًا إلى أن أي سلاحٍ يُرسل إلى هذا الكيان اليوم يُستخدم في قتل المدنيين، بمن فيهم الأطفال والنساء.
هذا الموقف أثار غضب اللوبي الصهيوني وعددٍ من العواصم الغربية، خاصة واشنطن ولندن وبرلين، التي ما زالت تعتبر كيان الاحتلال الاسرائيلي "دولة تدافع عن نفسها"، ومع ذلك، يبدو أن مدريد تتحرك ضمن موجة جديدة من الوعي الأوروبي الذي بدأ يتشكّل بعد توثيق جرائم الاحتلال في غزة بالصور والفيديوهات، واعتراف منظماتٍ كبرى مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" بأن حكومة الاحتلال الاسرائيلي تمارس نظام فصلٍ عنصري وسياساتٍ ترقى إلى الإبادة الجماعية.
الإفلات من العقاب... أصل المأساة الفلسطينية
منذ نكبة عام 1948، تمكّن الكيان الاسرائيلي من بناء جدارٍ من الحصانة الدولية حول نفسه. فلم يُحاسب أيٍّ من قادته على مجازر دير ياسين، قبية، صبرا وشاتيلا، جنين، غزة، وغيرها، وكان الدعم الأمريكي والغربي اللامحدود بمثابة درعٍ يحميه من العدالة.
لكنّ جريمة غزة الأخيرة كشفت المستور، فقد تم توثيق آلاف الأدلة المصوّرة على قتل المدنيين، واستخدام التجويع كسلاحٍ حربي، واستهداف الطواقم الطبية وفرق الإغاثة، بل حتى دفن الجرحى أحياء تحت الأنقاض، هذه الأفعال لم تعد قابلة للإنكار، ولم تعد قابلة للتبرير.
الإفلات من العقاب هو ما سمح لحكومة هذا الكيان بتكرار جرائمها جيلاً بعد جيل، لذلك فإن الدعوة الإسبانية اليوم تسعى إلى كسر هذه الحلقة التاريخية، ووضع حدٍّ نهائي لسياسة "الاستثناء الإسرائيلي" التي جعلت من الكيان فوق القانون الدولي.
مسؤولية المحكمة الجنائية الدولية
لا يمكن الحديث عن العدالة دون التوقف عند دور المحكمة الجنائية الدولية التي فتحت بالفعل تحقيقًا رسميًا في جرائم الحرب في الأراضي الفلسطينية، ورغم الضغوط الأمريكية والإسرائيلية الهائلة، إلا أنّ المدعي العام للمحكمة، كريم خان، أصدر مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت بتهم تتعلق بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
هذا القرار التاريخي، المدعوم من أصواتٍ أوروبية متزايدة مثل إسبانيا وأيرلندا والنرويج، يُعتبر تحولًا جوهريًا في علاقة الغرب بكيان الاحتلال، فبعد عقودٍ من الحماية السياسية، باتت حكومة الاحتلال الاسرائيلي تواجه خطر المحاسبة القانونية لأول مرة على أعلى المستويات.
إنّ دعم مدريد لهذه الخطوة يعيد الاعتبار للمبادئ التي قامت عليها العدالة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، ويؤكد أنّ لا أحد فوق القانون، حتى لو كان حليفًا للغرب
مدن أوروبية مشحونة تطالب بالقصاص
في السياق ذاته شهدت مدن أوروبية كبرى خلال الأشهر الأخيرة موجةً متصاعدة من المظاهرات الشعبية الحاشدة التي طالبت بمحاسبة كيان الاحتلال الإسرائيلي على جرائمه المروعة في غزة والضفة الغربية، ففي شوارع مدريد، وبرلين، وباريس، ولندن، خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين رافعين الأعلام الفلسطينية ولافتات كتب عليها "أوقفوا الإبادة" و"لا سلام بلا عدالة"، مردّدين شعارات تندد بالتواطؤ الغربي وصمت الحكومات، وتحوّلت هذه المظاهرات إلى حركة أوروبية واسعة للضغط على صناع القرار من أجل فرض عقوبات، ووقف بيع السلاح لكيان الاحتلال، ودعم التحقيقات الدولية الجارية في جرائم الحرب والإبادة الجماعية، كما شارك في المسيرات سياسيون، ونشطاء حقوقيون، وطلاب جامعات، مؤكدين أن الرأي العام الأوروبي لم يعد يقبل باستمرار الإفلات من العقاب، وأن العدالة للفلسطينيين أصبحت قضية أخلاقية وإنسانية تتجاوز حدود السياسة.
السلام ليس نسيانًا ولا غفرانًا
يحاول بعض الساسة الغربيين إعادة إحياء خطاب "المصالحة" و"الحوار"، وكأنّ ما حدث في غزة كان خطأً عسكريًا يمكن تجاوزه بتفاهمٍ سياسي، لكنّ هذه المقاربة تتجاهل عمق الجرح الفلسطيني، وحجم الجرائم التي ارتُكبت على مدى عامٍ كامل.
السلام الحقيقي لا يمكن أن يُبنى على أنقاض الضحايا، ولا يمكن للفلسطينيين أن يقبلوا "سلامًا" يقوم على دفن ذاكرتهم الوطنية ودماء أطفالهم، كما أنّ المجتمع الدولي، إن كان جادًا في التزامه بالقيم الإنسانية، عليه أن يُثبت أن العدالة لا تتجزأ، وأنّ من ارتكب جريمة إبادة لا يمكن أن يكون شريكًا في السلام قبل أن يُحاسب.
حظر السلاح... اختبار أخلاقي للغرب
من بين أهم النقاط التي ركز عليها رئيس الوزراء الإسباني، هي ضرورة الاستمرار في حظر بيع السلاح لكيان الاحتلال الاسرائيلي، فكل طلقةٍ تُرسل اليوم، وكل طائرةٍ أو قذيفةٍ تُباع، تعني عمليًا مشاركةً في الجريمة.
وقد بدأت بالفعل عدة دول أوروبية مثل بلجيكا وهولندا باتخاذ خطوات مماثلة، إما بوقف تصدير الأسلحة أو بتقييدها. كما أصدرت محاكم محلية في بعض الدول أحكامًا تمنع توريد الأسلحة إلى حكومة الاحتلال بسبب استخدامها في قتل المدنيين، استنادًا إلى قوانين حقوق الإنسان الأوروبية.
هذا التوجه المتنامي يشير إلى أن الضمير الأوروبي بدأ يصحو، وأنّ مفهوم "المصالح السياسية" لم يعد كافيًا لتبرير الصمت أمام الجرائم الموثقة.
لا سلام بلا عدالة
إنّ موقف إسبانيا، رغم ما قد يواجهه من ضغوط، يعيد تعريف السلام في سياق القضية الفلسطينية، فليس السلام أن تُرفع الأعلام البيضاء بينما المجرمون أحرار، وليس السلام أن يُعاد إعمار غزة من دون محاسبة من دمّرها عمدًا.
السلام الحقيقي يبدأ من العدالة، والمحاسبة، والاعتراف بالضحايا، وما لم تُطبّق قرارات محكمة العدل الدولية بحق قادة الاحتلال، وما لم يتوقف تدفق السلاح نحو آلة القتل الإسرائيلية، فإنّ كل حديثٍ عن "عملية سلام" لن يكون سوى تكرارٍ مأساويٍ لخطابٍ فقد معناه.
لقد قالها سانشيز بوضوح ": السلام لا يعني النسيان، ولا يمكن أن يكون هناك سلام دون عدالة للفلسطينيين."
وهي عبارة تختصر ما يحتاجه العالم اليوم: أن يتوقف عن خداع نفسه، وأن يدرك أن إفلات كيان الاحتلال الاسرائيلي من العقاب هو العائق الأكبر أمام أي سلامٍ حقيقي في الشرق الأوسط.