الوقت- لم تعد الحرب على غزة تُدار فقط بالقنابل والطائرات، بل باتت تُخاض اليوم عبر الخوارزميات، والذكاء الاصطناعي، وأنظمة تحليل البيانات الضخمة، ما يجري في القطاع ليس مجرد عدوان عسكري تقليدي، بل نموذجاً مرعباً لحرب مستقبلية تُدار آليًا، حيث يتحوّل الإنسان إلى هدف رقمي، والعائلة إلى أضرار جانبية محسوبة، والمجزرة إلى مخرجات نظام.
هذا ما دفع فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة، إلى القول بوضوح: ما يحدث في غزة هو نهاية البشرية، ونهاية النظام القيمي الذي ادّعينا يومًا أننا ننتمي إليه.
ثلاثية القتل الذكي: من التعرّف إلى الإبادة
تشير تقارير صحفية وتحقيقات مستقلة إلى أن كيان الاحتلال الإسرائيلي يستخدم منظومة متكاملة من ثلاث أدوات قائمة على الذكاء الاصطناعي لتنفيذ عمليات قتل ممنهجة بحق الفلسطينيين، ليس كأفراد فحسب، بل كعائلات كاملة، هذه المنظومة تتكوّن من:
لاوندر (Lavender): لتحديد من يجب قتله
غاسبل (Gospel): لتحديد أين يجب القصف
بابا أين أنت؟ (Where’s Daddy?): لتحديد متى يُنفّذ القتل… ويفضّل أن يكون داخل المنزل، وبين أفراد الأسرة
هذه الثلاثية عند جيش الاحتلال الصهيوني وداعميه لا تعمل بشكل منفصل، بل تشكّل سلسلة قتل متكاملة، تُدار بسرعة، وبحدّ أدنى من التدخل البشري، وبحدّ أقصى من البرودة التقنية.
لاوندر: تصنيف البشر بنظام النقاط
يُعدّ نظام لاوندر الحلقة الأولى في هذه السلسلة، وهو أداة تحليل بيانات ضخمة تعتمد على خوارزميات تعلم آلي، تقوم بجمع ومعالجة كمّ هائل من المعلومات عن سكان غزة:
بيانات الاتصالات، أنماط الحركة، السلوك الرقمي، العلاقات الاجتماعية، سجلات المواقع وأي أثر رقمي يمكن التقاطه
بناءً على هذه البيانات، يمنح النظام لكل شخص درجة اشتباه من 1 إلى 100، تعبّر عن احتمالية ارتباطه بالمقاومة.
ووفقًا للتقارير، تم إدراج أكثر من 37 ألف فلسطيني، معظمهم من المدنيين، في قوائم الاستهداف خلال المراحل الأولى من العدوان، هنا لا نتحدث عن أدلة، أو تحقيقات، أو محاكمات، بل عن احتمالات حسابية تقرر مصير إنسان.
غاسبل: تحويل البيوت إلى أهداف عسكرية
بعد تحديد (من) ، يأتي دور غاسبل لتحديد (أين) وهو ما يعرف بنظام غاسبل وهذا النظام يُعنى بتحليل الفضاء العمراني من خلال صور أقمار صناعية، خرائط رقمية، بيانات سابقة عن المباني، أنماط الدخول والخروج وتاريخ أي نشاط مشتبه به في الموقع.
بكلمات أخرى، غاسبل لا يسأل: هل هذا المبنى مدني؟ بل يسأل: هل يمكن تبرير قصفه خوارزميًا؟
وهكذا تتحول العمارات السكنية، والمنازل العائلية، وحتى المناطق المكتظة بالنازحين، إلى أهداف محتملة لأن النظام يرى فيها صلة رقمية بشخص مُصنّف مسبقًا.
بابا أين أنت؟: تكريس القتل في اجتماع العائلة
الحلقة الأكثر رعبًا في هذه المنظومة هي نظام بابا أين أنت؟
وظيفته ليست تحديد الهوية ولا المكان، بل تحديد اللحظة المثالية للقتل، يقوم هذا النظام بتتبع الموقع اللحظي للأشخاص المصنّفين مسبقًا، عبر بيانات الهاتف، وشبكات الاتصال، والإشارات الرقمية، وعندما يرصد أن الشخص عاد إلى منزله، واستقر في مكان ثابت — غالبًا مع عائلته — يُطلق الإشارة الخضراء، بمعنى آخر، يُفضّل القتل عندما يكون الأب في بيته، مع أطفاله وزوجته.
هنا لا يعود الحديث عن خطأ عسكري أو سوء تقدير، بل عن قرار ممنهج بقتل العائلة كاملة، باعتبار ذلك أكثر كفاءة.
الشركات الأمريكية: الشريك غير المرئي في الإبادة
لا يمكن فصل هذه المنظومة عن البنية التحتية التقنية التي تقف خلفها. تقارير عديدة تشير إلى أن شركات تكنولوجيا أمريكية عملاقة — مثل مايكروسوفت، غوغل، أمازون — وفّرت خدمات الحوسبة السحابية، وتخزين البيانات، وأدوات الذكاء الاصطناعي لجيش كيان الاحتلال الإسرائيلي، لا سيما عبر مشاريع مثل Nimbus ومنصات مثل Azure.
هذه الشركات تدّعي أن خدماتها محايدة أو عامة، لكن الواقع يشير إلى أنها تشكّل العمود الفقري التقني لمنظومة قتل تعتمد على تحليل البيانات البشرية.
إلى جانب ذلك، تلعب شركات مثل Palantir دورًا محوريًا في دمج البيانات الاستخباراتية وتقديم صورة شاملة تُستخدم مباشرة في اتخاذ قرارات القصف.
من الاحتلال إلى الإبادة الرقمية
فرانشيسكا ألبانيز، التي تعرّضت لعقوبات أمريكية بسبب تقاريرها، أكدت أن أكثر من 60 شركة دولية ساهمت — بشكل مباشر أو غير مباشر — في تحويل اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد إبادة جماعية.
ما يحدث في غزة ليس مجرد انتهاك للقانون الدولي، بل تجربة حيّة لنموذج جديد من الحروب، حيث:
-يُختزل الإنسان إلى ملف بيانات
-تُستبدل الأخلاق بالخوارزميات
-تُدار المجازر بواجهات رقمية
-حين يصبح القتل مؤتمتًا
غزة اليوم ليست فقط ساحة عدوان، بل مرآة لمستقبل مظلم إذا لم يُوقف هذا النموذج، مستقبل تُدار فيه الحروب كما تُدار الإعلانات: بيانات تدخل، مخرجاتها أعداد من الشهداء المدنيين.
وفي مواجهة هذا الانحدار، كما قالت ألبانيز: سلاحي الوحيد هو قلمي، لكن مسؤولية إنقاذ ما تبقى من الإنسانية لا تقع على قلم واحد، بل على ضمير عالم بأكمله.
