الوقت- في لحظة تاريخية بالغة الخطورة، تعود الأسئلة الوجودية لتفرض نفسها بقوة: ألم يعد هناك أي رادع لكيان الاحتلال الإسرائيلي؟ وهل باتت كل الخطوط الحمراء، القانونية والإنسانية، مجرد حبر على ورق أمام ممارساته المتصاعدة بحق الشعب الفلسطيني؟
وخصوصا بعد مصادقة لجنة الخارجية والأمن في الكنيست على مشروع قانون يقضي بحظر تزويد مقرات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بالمياه والكهرباء، الخطوة التي لايمكن اعتبارها إجراءً إدارياً عابراً، بل تمثل حلقة جديدة في سياسة ممنهجة تستهدف تصفية قضية اللاجئين، وتجفيف أحد آخر الشرايين الإنسانية التي تبقي ملايين الفلسطينيين على قيد الحياة.
الأونروا في مرمى الاستهداف: ما وراء القرار
منذ تأسيسها عام 1949، لم تكن الأونروا مجرد مؤسسة إغاثية، بل شاهدًا دوليًا على جريمة تاريخية مستمرة: تهجير الشعب الفلسطيني وحرمانه من حق العودة، ولهذا السبب تحديدًا، تحوّلت الوكالة إلى هدف استراتيجي لـ"إسرائيل"، التي ترى في وجودها تذكيرًا دائمًا بنكبة لم تُغلق ملفاتها.
مشروع القانون الذي صادقت عليه لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، والذي يمهّد لفصل المياه والكهرباء عن مقرات الأونروا، يهدف صراحة إلى شلّ الوكالة وإنهاء دورها، ولا سيما في القدس الشرقية المحتلة، وهو استكمال لقرار سابق أُقرّ في أكتوبر/تشرين الأول 2024 بحظر نشاط الأونروا داخل "إسرائيل"، بذريعة اتهامات لم تثبت قانونيًا حول مشاركة بعض موظفيها في أحداث الـ 7 من أكتوبر 2023.
اللافت أن هذه الادعاءات، رغم نفي الوكالة والأمم المتحدة لها، تحوّلت إلى ذريعة جماعية لمعاقبة ملايين اللاجئين الفلسطينيين، في مخالفة صريحة لمبدأ عدم العقاب الجماعي المنصوص عليه في القانون الدولي الإنساني.
رد فعل حماس
وصفت حركة حماس مصادقة لجنة الخارجية والأمن في الكنيست على مشروع قرار حظر تزويد مقرات الأونروا بالمياه والكهرباء بأنها خطوة تصعيدية خطيرة تندرج ضمن سياسة إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى تقويض الدور الإنساني للوكالة وشلّ قدرتها على خدمة اللاجئين الفلسطينيين، وأكدت الحركة أن هذا القرار يعكس طبيعة الاحتلال الإجرامية واستخفافه بالقانون الدولي، مطالبةً المجتمع الدولي والأمم المتحدة بتحمّل مسؤولياتهم القانونية والأخلاقية، ووقف الاستهداف الصهيوني المتواصل للأونروا، ودعم استمرارها في أداء رسالتها الإنسانية، ولا سيما في ظل الكارثة غير المسبوقة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
تجفيف الحياة كسلاح سياسي
فصل الماء والكهرباء عن مؤسسات إنسانية ليس مجرد إجراء عقابي، بل استخداماً مباشراً للحاجات الأساسية كسلاح سياسي، فالمياه والكهرباء ليست امتيازات، بل حقوق إنسانية أساسية، ويُعد حرمان أي جهة مدنية منها جريمة وفق اتفاقيات جنيف.
حين يُحرم مقر الأونروا من الكهرباء، تتعطل المستشفيات الميدانية، تتوقف أنظمة التبريد الخاصة بالأدوية واللقاحات، ويُشلّ العمل الإغاثي، وحين تُقطع المياه، يُهدد ذلك الصحة العامة، ويحوّل أماكن تقديم الخدمات إلى بؤر خطر صحي، ولا سيما في بيئة مدمّرة كغزة والقدس الشرقية.
بهذا المعنى، لا يستهدف القرار موظفي الأونروا فحسب، بل يمسّ بشكل مباشر حياة اللاجئين الفلسطينيين، ويضاعف معاناتهم في وقت يعيشون فيه واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث.
الإبادة مستمرة بأدوات متعددة
يتزامن هذا التصعيد التشريعي مع واقع كارثي في قطاع غزة، حيث خلّفت حرب الإبادة الإسرائيلية – المدعومة أمريكيًا – دمارًا واسعًا طال البشر والحجر، أكثر من عامين من القصف، الحصار، التجويع، وتدمير البنية التحتية، جعلت من الأونروا العمود الفقري الأخير لأي استجابة إنسانية.
ومع ذلك، بدل أن يُكافأ هذا الدور، يجري استهدافه وتشويهه ومحاصرته، وكأن الرسالة الإسرائيلية واضحة: لا مكان لأي مؤسسة تحاول إنقاذ الفلسطينيين أو توثق معاناتهم.
صمت دولي أم تواطؤ مكشوف؟
الأخطر من القرار ذاته هو السياق الدولي الذي يُتخذ فيه، فالمجتمع الدولي، الذي طالما تغنّى بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، يبدو عاجزًا – أو غير راغب – في لجم السلوك الإسرائيلي، بيانات القلق، والدعوات الفضفاضة إلى “ضبط النفس”، لم تعد تقنع أحدًا.
اقتحام الشرطة الإسرائيلية لمقر الأونروا في القدس الشرقية الأسبوع الماضي، والاستيلاء على محتوياته، جرى دون أي ردع دولي حقيقي. لا عقوبات، لا مساءلة، ولا حتى ضغط سياسي فعّال. وهذا ما يفتح الباب واسعًا أمام سؤال مركزي: هل يتمتع كيان الاحتلال بحصانة مطلقة؟
الأونروا وحق العودة: المعركة الأعمق
استهداف الأونروا لا ينفصل عن مشروع أوسع يهدف إلى شطب قضية اللاجئين الفلسطينيين من الوعي السياسي الدولي، فبإنهاء دور الوكالة، تسعى "إسرائيل" إلى إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني، وإلغاء الاعتراف الدولي بمأساته المستمرة.
لكن هذه المحاولة تصطدم بحقيقة راسخة: الأونروا لم تخلق قضية اللاجئين، بل جاءت نتيجة لها، وإنهاء الوكالة لن ينهي اللجوء، بل سيعمّق المأساة ويكشف زيف أي ادعاء بالبحث عن "السلام".
ألم يعد هناك رادع؟
السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: ألم يعد هناك أي رادع لكيان الاحتلال الإسرائيلي؟
حين تُقصف المستشفيات، وتُستهدف قوافل الإغاثة، ويُجوّع المدنيون، وتُشرّع القوانين لحرمان اللاجئين من الماء والكهرباء، دون محاسبة، فإن مفهوم الردع الدولي يكون قد انهار بالكامل.
إن ما نشهده اليوم ليس فقط اعتداءً على الفلسطينيين، بل اختبارًا أخلاقيًا للنظام الدولي برمته، فإما أن تُستعاد مبادئ العدالة والقانون، أو يُكرَّس منطق القوة والعنصرية كقاعدة حاكمة للعلاقات الدولية.
المعركة لم تنتهِ
قرار الكنيست الأخير ليس نهاية المطاف، بل محطة جديدة في صراع طويل على الحقوق والوجود والذاكرة، ورغم فداحة الاستهداف، تبقى الأونروا رمزًا لصمود اللاجئين الفلسطينيين، وشاهدًا حيًا على جريمة لم تسقط بالتقادم.
إن تبعات هذا القرار على الفلسطينيين ستكون إنسانية وسياسية وقانونية عميقة، لكن تبعاته على صورة "إسرائيل" والمجتمع الدولي ستكون أشد خطورة، فالتاريخ لا يرحم، والشعوب لا تنسى، والعدالة – وإن تأخرت – لا تموت.
ويبقى السؤال مفتوحًا، مؤلمًا، وملحًا: إلى متى سيظل الفلسطيني وحده في مواجهة كيان بلا رادع؟
