الوقت- في ظل استمرار البحث عن مخرج سياسي وأمني في قطاع غزة، تتكثف في الآونة الأخيرة التحركات الإقليمية والدولية لبحث آليات “اليوم التالي” للحرب، وسط مقترحات متعددة تتصدرها فكرة نشر قوة دولية أو متعددة الجنسيات في القطاع، هذه الفكرة، التي تتداولها عواصم عربية وغربية على حد سواء، لا تنفصل عن مخاوف عميقة لدى الدول المعنية من الانزلاق إلى مواجهة جديدة، سواء مع الفصائل الفلسطينية أو فيما بينها، كما تعكس في الوقت ذاته إدراكًا متزايدًا بواقع القوة والنفوذ الذي ما زالت حركة حماس تحتفظ به داخل غزة رغم الضربات العسكرية الواسعة.
تشير تقارير إعلامية إسرائيلية وغربية إلى أن مصر والسعودية تدرسان، بالتشاور مع أطراف دولية، تصورًا يقوم على استقدام قوة دولية تتولى مهام أمنية محدودة في قطاع غزة، تشمل حفظ النظام ومنع الفوضى وتأمين المساعدات الإنسانية والمشاركة في تهيئة الظروف لإعادة الإعمار، ووفق هذه التقارير، فإن بعض الدول أبدت استعدادًا مبدئيًا للمشاركة في هذه القوة، من بينها إيطاليا وإندونيسيا، لكن ذلك جاء مشروطًا بشكل واضح بعدم الانخراط في أي مواجهات مباشرة مع حركة حماس أو الدخول في صدام عسكري معها، هذا الشرط، الذي تكرر في مواقف أكثر من دولة، يعكس قلقًا حقيقيًا من أن يتحول أي انتشار عسكري أجنبي في غزة إلى طرف جديد في الصراع بدلًا من أن يكون عامل تهدئة واستقرار.
الدول التي تناقش هذا الطرح لا تخفي مخاوفها من عدة سيناريوهات محتملة، أول هذه المخاوف يتمثل في خطر الاستنزاف العسكري والسياسي، إذ إن تجربة القوات الدولية في مناطق نزاع أخرى أظهرت أن غياب توافق محلي حقيقي قد يجعل هذه القوات هدفًا للهجمات أو الرفض الشعبي، كما تخشى هذه الدول من أن أي اشتباك مع حماس قد يجرها إلى مواجهة طويلة ومعقدة، وخاصة أن الحركة ما زالت تمتلك بنية تنظيمية وعسكرية قادرة على المناورة والتكيّف، إضافة إلى ذلك، هناك هواجس تتعلق بالصورة السياسية، إذ لا ترغب بعض الدول في أن تُصوَّر كقوى احتلال جديدة أو كأدوات لتنفيذ أجندات خارجية في قطاع يعاني أصلًا من حصار وحروب متكررة.
في هذا السياق، يُقرأ شرط “عدم الاشتباك مع حماس” على أنه أكثر من مجرد بند أمني، بل يحمل دلالة سياسية مهمة، إذ يعكس اعترافًا ضمنيًا بوجود الحركة كقوة أمر واقع لا يمكن تجاوزها في أي ترتيبات مستقبلية تخص غزة، صحيح أن هذا لا يعني بالضرورة اعترافًا رسميًا بحماس ككيان سياسي أو شرعي، لكنه يؤكد أن تجاهلها أو محاولة إقصائها بالقوة لم يعد خيارًا واقعيًا في حسابات كثير من الدول، هذا الإدراك يتقاطع مع تقييمات إعلامية واستخباراتية تشير إلى أن حماس، رغم الخسائر الكبيرة، ما زالت قادرة على إعادة تنظيم صفوفها والحفاظ على قدر من السيطرة والنفوذ داخل القطاع.
وتعزز هذه القراءة تقارير تحدثت عن نجاح حركة حماس في تجنيد نحو ثلاثة آلاف عنصر جديد خلال الشهرين الماضيين، في مؤشر لافت على قدرتها على استقطاب مقاتلين جدد رغم الظروف الإنسانية والاقتصادية القاسية التي يعيشها قطاع غزة، هذا التطور يثير قلقًا إضافيًا لدى الدول المعنية بخطة القوة الدولية، لأنه يعني أن الحركة لا تزال تمتلك قاعدة بشرية وتنظيمية تسمح لها بالاستمرار كفاعل عسكري وأمني مؤثر، كما يعكس هذا التجنيد أن الصراع لم يُحسم عسكريًا، وأن أي تصور للمرحلة المقبلة لا يمكن أن يقوم على فرضية إضعاف حماس إلى حد التلاشي.
من زاوية إقليمية، تبدو مصر حذرة بشكل خاص من أي خطوة قد تضعها في مواجهة مباشرة مع حماس أو تربك علاقتها بالملف الفلسطيني، وخاصة في ظل دورها التقليدي كوسيط رئيسي في التهدئة والمفاوضات، أما السعودية، فتتعامل مع الملف من منظور أوسع يرتبط بالاستقرار الإقليمي وتجنب الانجرار إلى صراعات مفتوحة قد تؤثر على أولوياتها الداخلية والإقليمية، ولذلك، فإن كلا البلدين يشددان، حسب ما نقلته مصادر إعلامية، على ضرورة وجود ضمانات واضحة تحدد مهام أي قوة دولية وتمنع تحولها إلى طرف مقاتل على الأرض.
في المقابل، ترى "إسرائيل" في هذه الطروحات محاولة لنقل عبء إدارة غزة إلى أطراف أخرى، لكنها في الوقت نفسه تبدي تحفظًا على أي صيغة قد تُبقي لحماس دورًا فاعلًا في القطاع، هذا التباين في الرؤى بين الأطراف المختلفة يفسر بطء التقدم في بلورة خطة متكاملة، ويعكس تعقيد المشهد الذي تتداخل فيه الاعتبارات الأمنية والسياسية والإنسانية.
في المحصلة، يبدو أن النقاش حول نشر قوة دولية في غزة يكشف عن معادلة شديدة الحساسية: فالدول تريد منع عودة الفوضى وتجدد القتال، لكنها لا تريد في الوقت نفسه الدخول في صدام مع حماس أو تحمل تكلفة مواجهة مفتوحة معها، وشرط عدم الاشتباك، بما يحمله من دلالات، يؤكد أن الحركة ما زالت لاعبًا لا يمكن تجاهله، وأن أي حل مستدام للأزمة في غزة سيظل مرهونًا بالتعامل مع هذا الواقع، سواء عبر ترتيبات أمنية مؤقتة أو من خلال مسار سياسي أوسع يعالج جذور الصراع بدل الاكتفاء بإدارته.
