الوقت- تشهد المنطقة، ولا سيما البحر الأحمر ومضيق باب المندب، تحولات استراتيجية غير مسبوقة جعلت اليمن محور الاهتمام الإقليمي والدولي، فمع تصاعد العمليات العسكرية لأنصار الله واتساع نطاق تأثيرهم البحري والسياسي، باتت القوى الغربية والإقليمية تسعى إلى كبح هذا النفوذ المتنامي عبر مبادرات وتحالفات جديدة.
في المقابل، أثبتت صنعاء قدرتها على الصمود والمناورة، بل تحويل الضغوط إلى مكاسب سياسية وعسكرية، تقارير غربية عديدة تؤكد أن اليمن اليوم يقف بثبات أمام التحالفات الدولية والكيان الصهيوني، واضعًا معادلة ردع جديدة في المنطقة، وبينما يواصل الغرب الحديث عن "الأمن البحري"، يبدو أن أنصار الله هم من فرضوا الأمن وفق شروطهم، فالمشهد لم يعد كما كان قبل أعوام، واليمن، رغم الجراح والحصار، يثبت أنه قادر على أن يكون لاعبًا رئيسيًا في موازين القوى الإقليمية والعالمية.
مبادرة الغرب تحت شعار الأمن البحري
في محاولة لاحتواء النفوذ البحري لأنصار الله، أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية إطلاق مبادرة جديدة حملت اسم "الشراكة الأمنية البحرية اليمنية (YMSP)"، بزعم حماية الملاحة ومكافحة التهريب، غير أن خلف هذا العنوان تبدو الأهداف الحقيقية أكثر وضوحًا، إذ تهدف المبادرة إلى الحد من سيطرة صنعاء على مضيق باب المندب والبحر الأحمر.
شارك في الاجتماع الافتتاحي للمبادرة ممثلون من أكثر من ثلاثين دولة، وتعهّدت الرياض ولندن والاتحاد الأوروبي بتقديم ملايين الدولارات لدعم المشروع، لكن الخبراء الغربيين أنفسهم يشيرون إلى أن المبادرات المماثلة فشلت سابقًا بسبب ضعف البنية الأمنية للحكومة الموالية للتحالف واعتمادها الكامل على الدعم الخارجي.
وقد أقرّ المحلل الأمريكي "إريك نافارو" بأن هذه المبادرة ليست سوى تكرار لسياسات فاشلة سابقة، تهدف إلى إبطاء توسع أنصار الله في البحر الأحمر بعد أن عجزت العمليات العسكرية عن تحقيق هذا الهدف، وهكذا، تحاول القوى الغربية عبر أدوات جديدة استعادة ما خسرته في الميدان، لكن الواقع الميداني يفرض معطيات تختلف عن الخطط النظرية.
فشل التحالف أمام الصمود اليمني
أظهرت الوقائع الميدانية خلال العامين الماضيين أن التحالف الذي تقوده السعودية ويدعمه الغرب لم يتمكن من كسر إرادة أنصار الله أو الحد من قدراتهم. فبرغم آلاف الغارات الأمريكية والصهيونية، لا تزال القدرات الصاروخية والبحرية لصنعاء قوية وفاعلة، وأشار "ناوارو" في تحليله إلى أن أنصار الله تمكنوا من الحفاظ على مواقعهم الاستراتيجية في الحديدة وباب المندب، بل نجحوا في تغيير موازين القوى لصالحهم.
لقد تجاوزت الحركة مرحلة الدفاع إلى مرحلة المبادرة، فباتت تشن هجمات دقيقة تستهدف السفن المرتبطة بالكيان الصهيوني، ما أربك الحسابات الغربية والإقليمية على حد سواء، كما أن فشل إعادة بناء خفر السواحل اليمني كشف هشاشة المنظومة الأمنية التي يعتمد عليها التحالف، ما زاد من ضعف نفوذه البحري، ومع كل محاولة جديدة للضغط العسكري أو الاقتصادي، يزداد أنصار الله رسوخًا في الميدان، معتمدين على قدراتهم الذاتية ووعيهم السياسي، هذا الصمود اليمني المتواصل أعاد تشكيل المشهد الإقليمي وجعل البحر الأحمر منطقة نفوذ متبدلة الموازين.
اليمن في مواجهة الكيان الصهيوني بثقة وقوة
في موازاة الصراع مع التحالف، برزت المواجهة اليمنية مع الكيان الصهيوني كأحد أبرز التحولات الإقليمية. فقد أكدت تقارير إعلامية أن اليمن يقف اليوم بثقة في وجه الكيان الصهيوني، فارضًا شروطه على أي تهدئة أو اتفاق. فقد ربطت صنعاء وقف عملياتها البحرية والجوية بالتزام الكيان الصهيوني بالاتفاقات القائمة، ما اعتُبر خطوة غير مسبوقة في تاريخ الصراع.
وأشارت التقارير إلى أن القوات اليمنية نفذت هجمات بعيدة المدى أصابت أهدافًا داخل الأراضي المحتلة، وتسببت في تعطيل حركة الطيران لدى الكيان الصهيوني واختراق أنظمة دفاعه، هذا الإنجاز العسكري ترافق مع صمود سياسي جعل واشنطن مضطرة إلى مراجعة علاقاتها مع الكيان الصهيوني في ما يخص الملف اليمني، إذ أدركت أن ربط الموقف الأمريكي بالموقف الصهيوني لم يعد يخدم مصالحها في المنطقة، ويرى محللون أن هذه المواجهة أكدت قدرة اليمن على التحرك بثقة كقوة إقليمية مستقلة، تمتلك قرارها وتفرض إرادتها، رغم الحصار والحرب.
البعد السياسي للمبادرة الغربية
على الصعيد السياسي، يبدو أن مبادرة "الشراكة الأمنية البحرية اليمنية" ليست سوى غطاء لتحركات تهدف إلى إعادة تمكين القوى التابعة للتحالف داخل السواحل اليمنية، فالمشاركون في المشروع، ومن بينهم جماعات مدعومة من الإمارات كـ"المجلس الانتقالي الجنوبي" و"المقاومة الوطنية"، يسعون إلى تثبيت حضورهم في الموانئ الغربية وعدن لضمان نفوذ دائم على البحر الأحمر.
غير أن هذا التوجه، حسب محللين غربيين، يعمّق الانقسام داخل المعسكر الموالي للتحالف ويضعف وحدة القرار الأمني في المناطق التي يسيطر عليها، كما أن اعتماد المشروع على تمويل خارجي يرسّخ التبعية السياسية لحكومة عدن، التي لا تملك القدرة على إدارة الملف البحري دون إشراف مباشر من الدول المانحة. في المقابل، استفادت صنعاء من هذه الانقسامات لتعزيز موقعها كسلطة مركزية متماسكة في شمال البلاد، ومع استمرار الخلافات بين الأطراف المدعومة من الخارج، تزداد فرص أنصار الله في ترسيخ نفوذهم وفرض شروطهم في أي تسوية قادمة تخص البحر الأحمر وأمن الملاحة الدولية.
توازن ردع جديد في الإقليم
تؤكد المعطيات الإقليمية أن اليمن أصبح جزءًا أساسيًا من معادلة الردع في الشرق الأوسط. فبعد سنوات من الحرب والحصار، تمكن أنصار الله من تحويل موقعهم الجغرافي إلى ورقة استراتيجية تربط البحر العربي بالبحر الأحمر، وتجعل أي تهديد لهم تهديدًا مباشرًا للملاحة الدولية.
هذا الواقع الجديد دفع القوى الكبرى إلى إعادة حساباتها، إذ لم تعد العمليات العسكرية التقليدية كافية لفرض السيطرة أو تحقيق الأهداف السياسية، كما أن المبادرات الدبلوماسية الجديدة لا تبدو قادرة على تجاوز حقيقة أن صنعاء أصبحت تمتلك قرارها المستقل وتفرض شروطها من موقع القوة، ويشير مراقبون إلى أن ميزان الردع الجديد الذي فرضه اليمن لم يقتصر على البحر الأحمر، بل امتد ليؤثر في معادلات الخليج والقرن الإفريقي أيضًا، وهكذا، فإن التحولات الجارية اليوم لا تعكس مجرد صراع محدود، بل تؤسس لمرحلة جديدة في الأمن الإقليمي، يكون فيها اليمن لاعبًا أساسيًا لا يمكن تجاوزه أو تهميشه.
في النهاية، لم يعد اليمن اليوم مجرد ساحة صراع بالوكالة، بل أصبح رقمًا صعبًا في معادلة الأمن الإقليمي والدولي، فأنصار الله، الذين واجهوا أعتى التحالفات العسكرية، أثبتوا أن الإرادة السياسية والميدانية قادرة على تغيير مسار التاريخ، وبينما تواصل القوى الغربية مساعيها لإعادة صياغة المشهد عبر المبادرات والتحالفات، تواصل صنعاء بناء قوتها الذاتية واستثمار موقعها الاستراتيجي، إن ما يجري في البحر الأحمر وباب المندب ليس مجرد مواجهة عسكرية، بل تحوّل جذري في موازين القوى، عنوانه الأبرز: اليمن يقرر، والعالم يعيد الحسابات.