الوقت- في تطور غير مسبوق في مسار الصراع اليمني - الأمريكي، أعلنت سلطات صنعاء عن فرض عقوبات على ثلاث عشرة شركة نفط أمريكية وتسعة مسؤولين تنفيذيين رفيعي المستوى، في خطوة وُصفت بأنها تحول استراتيجي في أدوات الردع اليمنية ضد واشنطن، ووفقًا لما أوردته مجلة سيناري إيكونوميك الإيطالية، فإن القرار يأتي في إطار مبدأ «المعاملة بالمثل» ردًا على العقوبات الأمريكية المفروضة على شخصيات ومؤسسات يمنية، وهو ما يكرّس للمرة الأولى انتقال المواجهة بين صنعاء وواشنطن من الساحة العسكرية والبحرية إلى المجال الاقتصادي، في مؤشر على توسّع أدوات الردع لدى أنصار الله وتعددها.
وأكد المدير التنفيذي لمركز تنسيق العمليات الإنسانية في صنعاء، وهو الجهة التي أصدرت القرار، أن هذه العقوبات تمثل رسالة واضحة بأن اليمن يمتلك القدرة على استخدام أدوات متعددة لحماية سيادته الوطنية وردع أي خطوات عدائية ضده.
قائمة العقوبات
حسب تقرير وكالة رويترز الصادر في 30 سبتمبر 2025، فقد شملت قائمة العقوبات شركات أمريكية عملاقة مثل «إكسون موبيل»، و«شيفرون»، و«كونوكو فيليبس»، و«ماراثون بتروليوم»، و«فاليرو»، و«أوكسيدنتال»، و«فيليبس 66»، كما أدرجت أسماء مديريها التنفيذيين ضمن قائمة العقوبات باعتبارهم شخصيات مشاركة في دعم العدوان الاقتصادي والعسكري ضد اليمن.
وحسب المجلة الإيطالية، فإن هذه الخطوة تعد الأولى من نوعها في المنطقة، إذ لم يسبق لأي جهة عربية أو إقليمية أن أعلنت عن فرض عقوبات اقتصادية مضادة ضد شركات أمريكية، ما يعكس رغبة صنعاء في ترسيخ مفهوم الردع الاقتصادي كأداة سيادية، ورسالة مباشرة إلى واشنطن بأن زمن الهيمنة الأحادية قد بدأ يتآكل تدريجيًا.
رد واشنطن وخلفية المواجهة الاقتصادية
الولايات المتحدة، من جانبها، كانت قد فرضت في سبتمبر 2025 عقوبات على 32 فردًا وكيانًا وأربع سفن مرتبطة بجماعة أنصار الله، متهمة إياهم بتهريب النفط وتمويل العمليات العسكرية في البحر الأحمر، كما سبقت هذه الخطوة حزمة عقوبات في أبريل من العام نفسه استهدفت ثلاث سفن ومالكيها بسبب نقلهم مشتقات نفطية إلى اليمن عبر ميناء رأس عيسى، وهو ما دفع صنعاء إلى اعتبار تلك العقوبات انتهاكًا لسيادتها واستهدافًا مباشرًا لقدراتها الاقتصادية، ومن هذا المنطلق، جاء القرار اليمني الأخير كرد رمزي وعملي في الوقت ذاته، يؤكد أن اليمن يمتلك أوراق ضغط لا تقتصر على الصواريخ والطائرات المسيرة، بل تمتد إلى المجال الاقتصادي والتجاري.
رمزية سياسية تتجاوز الحدود العسكرية
ورغم أن العقوبات تفتقر إلى آلية تنفيذ دولية فعلية بسبب عدم اعتراف المجتمع الدولي بحكومة صنعاء ككيان رسمي، فإنها تحمل رمزية سياسية قوية، لأنها تنقل المواجهة إلى مستوى جديد يتجاوز حدود الميدان العسكري، ويشير مراقبون إلى أن هذه الخطوة تعكس رغبة صنعاء في إعادة رسم قواعد الاشتباك مع الولايات المتحدة على أساس تكافؤ الردود، بحيث لا تكون واشنطن وحدها صاحبة المبادرة في فرض العقوبات، كما يرى محللون أن هذا الإجراء يعبّر عن انعدام الثقة لدى صنعاء تجاه مسار التهدئة الذي ترعاه سلطنة عمان، وخصوصًا بعد تأخر تنفيذ بنود اقتصادية تتعلق بدفع رواتب الموظفين ورفع الحصار عن ميناء الحديدة ومطار صنعاء.
بين الرمزية والتأثير الواقعي
ويؤكد المحلل اليمني رشيد الحداد، في تصريح لصحيفة القدس العربي، أن قرار أنصار الله فرض عقوبات على شركات أمريكية كبرى يمكن اعتباره مؤشراً على توتّر متصاعد في العلاقات غير المعلنة بين صنعاء وواشنطن، وقد يفتح الباب أمام جولة جديدة من التصعيد في البحر الأحمر إذا ما استُهدفت السفن المرتبطة بهذه الشركات. غير أن بعض الخبراء يعتبرون أن هذه العقوبات تظل رمزية أكثر من كونها فعالة من الناحية الاقتصادية، لكنها تكتسب أهميتها من حيث رسالتها السياسية والإعلامية، إذ تُظهر أن انصار الله لم يعودوا محصورين في إطار الفعل العسكري، بل باتوا يسعون لاستخدام أدوات اقتصادية وقانونية لتوسيع دائرة التأثير في الصراع الإقليمي.
تأثيرات محتملة على البحر الأحمر وأسواق الطاقة
تأتي هذه التطورات في ظل استمرار العمليات البحرية لأنصار الله في البحر الأحمر، والتي تستهدف السفن الإسرائيلية أو تلك المرتبطة بها دعمًا للمقاومة الفلسطينية في غزة، وفق ما تؤكده تصريحات المسؤولين في صنعاء، ويشير مراقبون إلى أن الجمع بين العمل العسكري في البحر واستخدام أدوات اقتصادية من خلال فرض العقوبات يمثل تطورًا في مفهوم الردع، بحيث لم يعد محصورًا في الرد الصاروخي، بل بات يشمل مروحة أوسع من الوسائل التي تضغط على المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، وفي الوقت نفسه، حذرت المجلة الإيطالية من أن القرار قد يؤدي إلى تصعيد كبير في البحر الأحمر ضد ناقلات النفط المرتبطة بالشركات الأمريكية، وهو ما قد يهدد أحد أهم الممرات الحيوية للطاقة في العالم، وخاصة إذا رافق القرار عمليات ميدانية أو احتجاز لسفن تحمل منتجات تابعة لتلك الشركات.
الاقتصاد كسلاح سياسي جديد
من الناحية التحليلية، يمكن القول إن هذه الخطوة تمثل محاولة ذكية من أنصار الله لإعادة تعريف مفهوم الردع الوطني، ليس فقط كسلاح دفاعي، بل كأداة سياسية تهدف إلى إظهار أن اليمن، رغم معاناته من الحصار والحرب، قادر على اتخاذ قرارات ذات تأثير رمزي في الاقتصاد العالمي، إنها أيضًا وسيلة للضغط على واشنطن للعودة إلى طاولة التفاوض بشروط أكثر توازنًا، فالتحرك يحمل بعدًا إعلاميًا واضحًا، إذ يرغب انصار الله في تقديم أنفسهم كطرف سيادي يتعامل بندّية مع الولايات المتحدة، وليس كمجرد حركة محلية تخوض صراعًا داخليًا، كما أنه يوجّه رسالة إلى الداخل اليمني بأن القيادة في صنعاء لم تعد ترد فقط بالصواريخ، بل بالعقوبات أيضًا، ما يعزز صورتها كسلطة تمتلك أدوات سياسية ودبلوماسية إلى جانب أدوات الحرب.
نحو مفهوم جديد للردع الإقليمي
من جانب آخر، يرى مراقبون أن هذه الخطوة تأتي في سياق ما يمكن تسميته بـ«ردع الاقتصاد المضاد»، وهو مفهوم جديد بدأ يبرز في سلوكيات بعض القوى غير التقليدية، حيث تُستخدم الأدوات الاقتصادية كوسيلة للردع دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة، بالنسبة لأنصار الله، يشكل ذلك تحولًا مهمًا في استراتيجية التعامل مع القوى الكبرى، إذ لم يعد الرد محصورًا في استخدام الطائرات المسيرة أو الصواريخ، بل بات يشمل أدوات ردع غير عسكرية أكثر مرونة وأقل تكلفة.
خلاصة القول، إن فرض العقوبات اليمنية على شركات النفط الأمريكية يعكس تطورًا نوعيًا في الفكر السياسي والعسكري لأنصار الله، ويؤكد سعيهم لإعادة صياغة معادلات القوة في المنطقة عبر مزيج من الأدوات العسكرية والاقتصادية والإعلامية، ومع أن الخطوة تظل رمزية من الناحية الاقتصادية، فإنها تفتح بابًا جديدًا في مفهوم الردع، وتوجه رسالة إلى الولايات المتحدة مفادها بأن صنعاء لم تعد الطرف الضعيف في المعادلة، بل باتت تمتلك خيارات متعددة في مواجهة الضغوط والعقوبات. ومع تصاعد التوتر في البحر الأحمر واستمرار الحصار الاقتصادي على اليمن، يبدو أن المرحلة المقبلة ستشهد تحولات أعمق في طبيعة الصراع، حيث تتداخل فيه السياسة بالاقتصاد، والردع بالعقوبات، في مشهد جديد يعيد رسم موازين القوى في الإقليم.