الوقت- أثارت الصور والتقارير الأخيرة عن اجتماع ثلاثي ضم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ورئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأبو محمد الجولاني، زعيم ما يُعرف بـ"هيئة تحرير الشام"، عاصفة من الجدل على المستوى الدولي. النقطة الأكثر إثارة كانت لحظة مصافحة السيناتور الأميركي ماركو روبيو للجولاني، وهو الرجل الذي صنفته واشنطن قبل سنوات إرهابياً خطيراً ورصدت عشرة ملايين دولار مكافأة لمن يدلي بمعلومات تقود للقبض عليه.
هذا المشهد لم يكن مجرد تفصيل عابر، بل أعاد إلى السطح نقاشاً عميقاً حول طبيعة السياسة الأميركية وممارساتها المزدوجة في التعامل مع الشخصيات المصنفة على قوائم الإرهاب. فمن منظور المجتمع الدولي، يتجاوز الأمر لقاءً بروتوكولياً ليطرح سؤالاً أكثر جوهرية: ما الذي تغيّر في شخصية الجولاني حتى ينتقل من خانة المطلوب الأول إلى "شريك محتمل في المفاوضات"؟
الجولاني: من مطارد إلى محاور
منذ ظهوره على الساحة السورية، ارتبط اسم الجولاني بتنظيمات مسلحة متشددة، بدءاً من ارتباطه بالقاعدة وصولاً إلى تأسيسه لـ جبهة النصرة، التي أُدرجت سريعاً على لوائح الإرهاب الدولية. سنوات طويلة ظل خلالها الرجل هدفاً مركزياً في سياسات الملاحقة الأميركية، حتى أن وزارة الخارجية الأميركية رصدت في إحدى حملاتها مكافأة مالية ضخمة مقابل أي معلومة تؤدي إلى تحديد مكانه.
لكن بمرور الوقت، بدأت واشنطن تتعامل مع الملف السوري بمنطق أكثر براغماتية، خصوصاً مع تراجع النفوذ المباشر لبعض الفصائل المسلحة وصعود تحديات جديدة في الإقليم. وهنا برزت مقاربة جديدة تحاول التمييز بين من يُعتبرون تهديداً مباشراً للمصالح الأميركية ومن يمكن توظيفهم سياسياً في مرحلة لاحقة. الجولاني، في هذا السياق، لم يغيّر الكثير من خلفيته أو ممارساته، لكن التغير الأكبر حدث في مقاربة واشنطن له.
ازدواجية المعايير الأميركية
اللافت في هذا التحول ليس فقط اللقاء بحد ذاته، وإنما الرسائل المتناقضة التي تبعثها واشنطن إلى العالم. كيف يمكن لدولة كانت تتبنى خطاب محاربة الإرهاب بلا استثناء أن تفتح أبواب البيت الأبيض لرجل كان اسمه حتى الأمس القريب على رأس قائمة المطلوبين لديها؟
هذا التناقض يُبرز جانباً أساسياً من السياسة الأميركية وهو البراغماتية المفرطة، حيث لا وجود لثوابت مطلقة بقدر ما هناك مصالح متغيرة. فإذا اقتضت الحاجة اعتبار شخصية مثل الجولاني تهديداً وجودياً، ستسخر واشنطن كل أدواتها الإعلامية والعسكرية ضده. أما إذا أصبح وجوده يخدم أجندة جديدة، فإن لغة التصنيفات سرعان ما تتبدل ليُقدَّم في صورة شريك مؤقت.
المجتمع الدولي أمام أسئلة صعبة
ردود الفعل الدولية لم تتأخر، إذ عبّرت كثير من الأوساط السياسية والإعلامية عن صدمة من هذا التحول المفاجئ. والسؤال الذي طرح بقوة هو: إذا كان الجولاني اليوم مقبولاً على طاولة التفاوض، فماذا عن بقية الشخصيات المصنفة إرهابية؟ وهل يمكن أن نشهد في المستقبل إعادة تدوير لأسماء أخرى بحجة التكيف مع التوازنات الإقليمية؟
هذه التساؤلات لا تعكس فقط قلقاً سياسياً، بل أيضاً مخاوف قانونية وأخلاقية. فالمجتمع الدولي بنى منظومة كاملة لمحاربة الإرهاب، اعتمدت فيها قرارات مجلس الأمن ولوائح دولية صارمة، لكن عندما تُظهر واشنطن نفسها على استعداد لتجاوز كل تلك القوانين وفق مصالحها، فإن ذلك يُضعف شرعية النظام الدولي بأسره.
تأثيرات إقليمية عميقة
على المستوى الإقليمي، يرسل هذا اللقاء رسائل مزدوجة. من جهة، هو إشارة واضحة إلى أن الولايات المتحدة قد لا ترى في بعض الفصائل المسلحة تهديداً دائماً، بل أدوات قابلة للتوظيف في لعبة النفوذ. ومن جهة أخرى، يُعطي مؤشراً للفصائل الأخرى بأن التحولات السياسية قد تمنحهم فرصة للخروج من دائرة التصنيف الإرهابي إذا أحسنوا إدارة علاقاتهم مع القوى الكبرى.
هذه الرسائل تُنذر بمرحلة جديدة من الفوضى في المشهد الإقليمي، حيث يصبح معيار "الإرهاب" خاضعاً للتفسير السياسي لا للتوصيف القانوني. وبالتالي، فإن استمرار هذا النهج قد يفتح الباب أمام إعادة تدوير فصائل وشخصيات أخرى طالما ارتبط اسمها بالعنف والتطرف.
ما وراء الصورة: إعادة تعريف الإرهاب
المصافحة بين روبيو والجولاني ليست مجرد لقطة إعلامية، بل هي انعكاس لتحول أعمق في مفهوم "الإرهاب" كما تستخدمه الولايات المتحدة. فالتعريف لم يعد ثابتاً بقدر ما أصبح أداة سياسية يمكن تعديلها وفق الحاجة.
بكلمات أخرى، لم يتغير الجولاني كثيراً، بل الذي تغير هو موقعه في خريطة المصالح الأميركية. وما لم تدركه واشنطن أن هذا النهج يزيد من هشاشة مصداقيتها الدولية، ويُعطي مبرراً للخصوم لاتهامها بالنفاق السياسي واستخدام "شعارات مكافحة الإرهاب" كسلاح انتقائي يخدم أجندتها لا أكثر.
أزمة ثقة عالمية
إن ما جرى ليس مجرد حدث بروتوكولي عابر، بل هو مؤشر خطير على التناقضات البنيوية في السياسة الأميركية. المجتمع الدولي ينظر اليوم إلى واشنطن باعتبارها قوة تضع القوانين وتكسرها في الوقت نفسه، وهو ما يفاقم أزمة الثقة العالمية بالنظام الدولي الذي تقوده.
في النهاية، تبقى الأسئلة مفتوحة: إذا كان الجولاني قد انتقل من خانة الإرهابي المطلوب إلى خانة الضيف المفاوض، فما الذي يمنع غداً من إعادة تدوير شخصيات أخرى بنفس الطريقة؟ وهل يمكن للعالم أن يأخذ على محمل الجد أي تصنيف أميركي جديد في المستقبل؟
الجواب الأرجح أن مثل هذه الأحداث ستُضعف من قوة الخطاب الأميركي وتزيد من قناعة الكثيرين بأن "الإرهاب" ليس تعريفاً موضوعياً، بل أداة سياسية متحركة، تتغير تبعاً لتغير المصالح. وهنا تكمن خطورة المشهد بأسره.