الوقت- في تطور لافت يعكس التحولات المتسارعة في الموقف الأوروبي من حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة، أعلن عمال ميناء جنوا الإيطالي منع مرور السفن المتجهة إلى "إسرائيل"، مؤكدين أنهم لن يكونوا طرفاً في استمرار المجازر بحق الفلسطينيين، يأتي هذا الموقف بعد خطوات مماثلة في موانئ مرسيليا الفرنسية وبرشلونة الإسبانية، ما يشير إلى نشوء حركة تضامن أوروبية شعبية منظمة تتجاوز الحكومات أحياناً، وتضغط نحو مقاطعة الكيان المحتل اقتصاديًا وعسكريًا.
في المقابل، يكشف المشهد العربي عن مفارقة مأساوية؛ ففي حين يقف الشارع الأوروبي ضد الحرب ويسعى لوقف تزويد "إسرائيل" بالسلاح والدعم اللوجستي، نجد بعض الأنظمة العربية المطبّعة تقدم الدعم المالي والعسكري المباشر للكيان، بما يصل إلى عشرات المليارات من الدولارات، بل تشارك في إعادة تصدير الأسلحة التي رفضت دول أوروبية بيعها لـ"إسرائيل"، هذه المفارقة تفتح باب النقاش حول أزمة الشرعية السياسية والأخلاقية في العالم العربي، ومكانة فلسطين كقضية مركزية بين الشعوب والأنظمة.
ميناء جنوا: إيطاليا تدخل خط المواجهة
خطوة عمال ميناء جنوا لم تأتِ من فراغ، بل تعكس تراكم نضال نقابي وشعبي طويل ضد عسكرة الموانئ الأوروبية وتحويلها إلى منصات لنقل الموت.
في أغسطس الماضي، اعترض العمال سفينة سعودية محمّلة بالأسلحة لـ"إسرائيل"، وصعد نحو 40 عاملاً لتوثيق الشحنة، رغم محاولات الطاقم منعهم.
سبق لعمال الميناء أن أوقفوا شحنة مشابهة عام 2019 على السفينة نفسها، وهو ما جعلهم في صدارة الحركات العمالية الأوروبية المناهضة للحرب.
اليوم يعلن العمال بوضوح أنهم "لن يسمحوا بخروج ولو مسمار واحد" من الميناء إذا تمت مصادرة أسطول "الصمود العالمي" المتوجه إلى غزة.
هذا الموقف النقابي الشعبي يحمل دلالة مهمة: فإيطاليا، الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، تشهد تصدعاً بين سياسات الحكومة الرسمية ومواقف المجتمع المدني الذي يرى في استمرار نقل السلاح لـ"إسرائيل" تواطؤاً في جريمة إبادة جماعية موثقة أمام محكمة العدل الدولية.
إسبانيا وإيرلندا: إرهاصات موقف أوروبي متمايز
لم يكن التحرك الإيطالي معزولاً؛ فقد سبقته إسبانيا بمواقف أكثر جرأة:
أعلن وزير النقل الإسباني أن بلاده لن تمنح تراخيص لأي سفينة تحمل أسلحة إلى "إسرائيل".
دعت نقابات عمالية كبرى إلى تعديل القوانين لحظر شامل على تجارة الأسلحة مع "إسرائيل".
إيرلندا، من جهتها، طالبت علناً بوقف التعامل التجاري مع الاحتلال، في انسجام مع موقفها التاريخي المناصر لفلسطين.
هذه المواقف الأوروبية، وإن بدت متفرقة، إلا أنها تشكّل نواة جبهة تضامن شعبية-مؤسساتية تسعى لفرض حصار على "إسرائيل" من خلال أدوات القانون الدولي والضغط الشعبي، ما قد يمهّد لتطور أوسع داخل الاتحاد الأوروبي.
أسطول الصمود العالمي: المقاومة المدنية العابرة للحدود
انطلاق "أسطول الصمود العالمي" من برشلونة ثم جنوا، بمشاركة ناشطين من 44 دولة، يعكس تدويل معركة غزة، آلاف الأشخاص توافدوا لتوديع السفن، في مشهد يذكّر بأساطيل الحرية السابقة التي تعرضت لقرصنة إسرائيلية في عرض البحر.
الأسطول يضم منظمات دولية مثل "التحالف من أجل الحرية"، و"الحركة العالمية لغزة"، و"قافلة الصمود"، إضافة إلى منظمات ماليزية وإسلامية.
الهدف واضح: كسر الحصار وتجريم الإبادة الجماعية الإسرائيلية.
التهديدات الإسرائيلية بمصادرة السفن واعتقال المشاركين لم تمنع التضامن، بل عززت إصرار الحركات العمالية والمدنية الأوروبية على منع أي شحنة متجهة لـ"إسرائيل".
هذا يعكس أن المقاومة المدنية العالمية باتت لاعباً مؤثراً في مسار الصراع، وأن الرأي العام الدولي يسبق أحياناً المواقف الرسمية للحكومات.
التطبيع العربي: دعم مادي وعسكري لـ"إسرائيل"
في مقابل هذه الصحوة الأوروبية، كشفت تقارير صحفية غربية وإسرائيلية أن دولتين خليجيتين مطبّعتين مع الاحتلال قدّمتا دعماً مباشراً لـ"إسرائيل" خلال حربها على غزة:
الدولة الأولى:
أعادت تصدير شحنة ذخائر حيّة إلى "إسرائيل" بعد أن رفضت إسبانيا بيعها مباشرة للاحتلال. فيما حولت 40 مليار دولار للبنك المركزي الإسرائيلي، منها 10 مليارات كهبة لدعم المجهود الحربي، وقد وُصفت بأنها "الأكثر حماسة لاستمرار الحرب" بدافع عدائها للإسلام السياسي.
الدولة الثانية:
أرسلت شحنة كبيرة من الأسلحة إلى إسرائيل مجاناً، وبررت هذه الخطوة برغبتها في المساهمة بإعادة تشكيل "شرق أوسط جديد" يقوده نتنياهو.
هذه الحقائق تضع الأنظمة العربية أمام اتهام مباشر بالمشاركة في جريمة الإبادة الجماعية، ليس فقط عبر الصمت أو التطبيع، بل عبر التمويل والتسليح المباشر للآلة العسكرية الإسرائيلية.
ازدواجية المعايير: أوروبا ضد "إسرائيل"... العرب معها!
المفارقة الكبرى تكمن في أن الشارع الأوروبي يضغط لوقف التجارة مع "إسرائيل"، فيما بعض الأنظمة العربية تدعمها اقتصادياً وعسكرياً:
النقابات العمالية الأوروبية تقاوم أي مساهمة في الحرب، بينما الحكومات العربية المطبّعة تبرم اتفاقيات بمليارات الدولارات وتشارك في إعادة تسليح الاحتلال.
هذه الازدواجية تضعف الموقف العربي الرسمي أمام شعوبه، وتعيد إلى الأذهان لحظة انهيار النظام الرسمي العربي أمام التطورات الشعبية كما حدث في ثورات 2011.
البعد القانوني والسياسي
من الناحية القانونية، فإن ما تقوم به إيطاليا وإسبانيا وإيرلندا من خطوات لمنع مرور السفن أو بيع الأسلحة يعكس التزاماً بمبدأ عدم التواطؤ في جرائم الإبادة الجماعية، وفق القانون الدولي، في الوقت الذي تنظر محكمة العدل الدولية بالفعل في دعاوى ضد "إسرائيل"، وكانت المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين، واعتبرت أن أي دولة تواصل تزويد "إسرائيل" بالسلاح تُعتبر شريكاً في الجريمة، ما يفتح الباب لملاحقات قانونية مستقبلية.
أما على الصعيد السياسي، فإن هذا المسار قد يؤدي إلى تصدع داخل الاتحاد الأوروبي بين حكومات خاضعة للنفوذ الأمريكي، وحركات عمالية وشعبية تسعى لفرض مواقف أكثر استقلالية.
ماذا يعني هذا بالنسبة للعالم العربي؟
أولاً: يكشف الموقف الإيطالي والإسباني والإيرلندي أن هناك مجالاً واسعاً للتحرك الشعبي والنقابي في مواجهة سياسات الحكومات المتواطئة.
ثانياً: يعرّي الموقف العربي الرسمي الذي يكتفي بالخطابات أو يذهب أبعد عبر تمويل الاحتلال.
ثالثاً: يفتح الباب أمام إعادة الاعتبار للحركات الشعبية العربية التي يمكن أن تضغط لفرض مواقف مماثلة على الأنظمة.
ختام القول
قرار إيطاليا منع مرور السفن الإسرائيلية من ميناء جنوا ليس مجرد إجراء نقابي محدود، بل هو مؤشر على تحوّل أوسع في الرأي العام الأوروبي تجاه جرائم الاحتلال في غزة، في المقابل، الدعم العربي الرسمي لـ"إسرائيل" بالمال والسلاح يعكس أزمة شرعية كبرى للأنظمة المطبّعة، التي وجدت نفسها في خندق واحد مع الاحتلال ضد إرادة شعوبها.
المفارقة أن أوروبا التي ارتكبت جرائم تاريخية بحق العرب والمسلمين، تقف اليوم – على الأقل شعبياً – مع غزة، فيما بعض الأنظمة العربية تساهم في استمرار الإبادة، هذه المفارقة قد تكون نقطة تحوّل في الوعي الجمعي العربي، ودافعاً لطرح سؤال جوهري: إذا كان عمال الموانئ في جنوا أو برشلونة قادرين على تعطيل آلة الحرب الإسرائيلية، فلماذا يُصرّ بعض الحكام العرب على تمويلها؟.