الوقت- في خطوة اعتبرها مراقبون واحدة من أكثر القرارات الأمريكية صدامًا مع القانون الدولي، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أواخر أغسطس/آب 2025 رفضها منح الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ومعه وفد يضم نحو ثمانين شخصية فلسطينية، تأشيرات دخول لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
القرار الذي جاء في لحظة سياسية مفصلية، حيث تعتزم عدة دول أوروبية الاعتراف بدولة فلسطين خلال اجتماعات سبتمبر/أيلول، لم يكن مجرد إجراء إداري، بل إعلانًا سياسيًا مدويًا يعكس طبيعة الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، وانحيازها الفج إلى جانب "إسرائيل"، وتوظيفها لموقعها كدولة مضيفة لمقر الأمم المتحدة لفرض إرادتها على المجتمع الدولي برمته.
هذا المنع لم يثر فقط موجة غضب فلسطيني، بل أشعل أيضًا موجة إدانات دولية واسعة من عواصم أوروبية بارزة كمدريد وباريس وبروكسل، التي رأت فيه انتهاكًا صارخًا لاتفاقية المقر الموقعة عام 1947، والتي تلزم الولايات المتحدة بالسماح للدبلوماسيين من جميع الدول الأعضاء بدخول أراضيها للمشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة.
لكن الأبعد من ذلك أن القرار كشف مجددًا عن تعنت واشنطن وسعيها لاحتكار القرار الدولي، فيما رحبت تل أبيب بهذه الخطوة، واعتبرها رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو "شجاعة" تستحق الامتنان، موجهاً الشكر للرئيس الأمريكي ترامب على وقوفه الحازم مع "إسرائيل" في مواجهة أي تحركات تهدف إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
من هنا، يصبح من الضروري تفكيك أبعاد هذا القرار: قانونيًا، سياسيًا، ودبلوماسيًا، ووضعه في سياقه التاريخي الممتد منذ عقود من الانحياز الأمريكي للسياسات الاستعمارية الإسرائيلية، وصولاً إلى دلالاته على مستقبل النظام الدولي وصراع الشرعية في العالم.
الخلفية التاريخية: من عرفات 1988 إلى عباس 2025
ليست هذه المرة الأولى التي تلجأ فيها واشنطن إلى سلاح التأشيرات كأداة للضغط السياسي ضد الفلسطينيين، ففي عام 1988، رفضت إدارة الرئيس رونالد ريغان منح تأشيرة دخول للرئيس الراحل ياسر عرفات لحضور اجتماعات الجمعية العامة بعد إعلان الاستقلال الفلسطيني في الجزائر وتصاعد الانتفاضة الأولى. حينها، اضطر المجتمع الدولي لنقل اجتماعات الأمم المتحدة إلى جنيف في سابقة لافتة أظهرت أن المنظمة الدولية يمكن أن تتحرر من هيمنة الدولة المضيفة إذا تعلق الأمر بانتهاك القانون الدولي.
اليوم، وبعد نحو 37 عامًا، يتكرر المشهد مع الرئيس محمود عباس، لكن الفارق الجوهري أن السياق الدولي مختلف تمامًا: "إسرائيل" متورطة في حرب إبادة مفتوحة على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، والرأي العام العالمي يشهد تحولات عميقة باتجاه دعم الحق الفلسطيني والاعتراف بالدولة الفلسطينية، بينما تواجه الولايات المتحدة عزلة متزايدة نتيجة انحيازها المطلق لتل أبيب.
هذا التكرار التاريخي يبرز حقيقة أن السياسة الأمريكية لم تتغير جذريًا، بل ازدادت انكشافًا، حيث انتقلت من مرحلة "الوسيط المنحاز" إلى مرحلة "الأصيل القائد"، أي أنها لم تعد تخفي دورها كشريك كامل في المشروع الاستعماري الصهيوني، بل باتت تتولى قيادة الحرب مباشرة في الميادين العسكرية والدبلوماسية والإعلامية.
البعد القانوني:انتهاك لاتفاقية المقر وشرعية الأمم المتحدة
القانون الدولي واضح في هذه المسألة، بموجب "اتفاقية المقر" الموقعة عام 1947 بين الأمم المتحدة والولايات المتحدة، تلتزم الدولة المضيفة بالسماح لجميع المندوبين المعتمدين لدى المنظمة الدولية بالدخول إلى أراضيها بغرض المشاركة في اجتماعاتها، بغض النظر عن الخلافات السياسية أو الاعتبارات الأمنية.
ما فعلته واشنطن يمثل انتهاكًا مباشرًا لهذه الاتفاقية، وهو ما أكده عدد من المسؤولين الدوليين، ومن بينهم المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك، الذي أعلن أن المنظمة ستناقش الأمر مع الخارجية الأمريكية "تماشيًا مع اتفاقية المقر".
هذا الانتهاك لا يقتصر على كونه خرقًا قانونيًا، بل هو تقويض مباشر لحيادية الأمم المتحدة كمؤسسة دولية، فإذا كانت الدولة المضيفة تستطيع استخدام موقعها للتحكم في من يحضر ومن يغيب، فإن مقر الأمم المتحدة في نيويورك يصبح رهينة بيد السياسة الأمريكية، ويفقد وظيفته كمساحة محايدة لإدارة الشؤون الدولية.
الأبعاد السياسية: إسكات الصوت الفلسطيني وفرض الرواية الإسرائيلية
القرار الأمريكي يعكس استراتيجية واضحة: إسكات الصوت الفلسطيني في لحظة مفصلية كانت ستشهد لأول مرة خطوات عملية من دول أوروبية كفرنسا وبريطانيا وأستراليا وكندا نحو الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين.
منع عباس من إلقاء خطابه في الجمعية العامة يعني عمليًا محاولة إجهاض أي إعلان فلسطيني محتمل لاستقلال الدولة أو حشد الاعترافات الدولية، هذا ينسجم تمامًا مع الأهداف الإسرائيلية التي عبر عنها وزير الخارجية جدعون ساعر صراحةً، حين حث نظيره الأمريكي على منع إصدار التأشيرات للوفد الفلسطيني "لمنع عباس من إعلان الدولة" في الأمم المتحدة.
بهذا المعنى، يصبح القرار جزءًا من معركة الرواية الدولية، فبينما يسعى الفلسطينيون إلى استخدام منبر الأمم المتحدة لتعزيز شرعيتهم الدولية، تعمل واشنطن وتل أبيب على إقصاء هذا الصوت ومنع ظهوره، لضمان استمرار سيطرة الرواية الإسرائيلية التي تصور المقاومة الفلسطينية كـ"إرهاب"، وتُبرر حرب الإبادة في غزة تحت ذريعة "حق الدفاع عن النفس".
ردود الفعل الدولية: إجماع على الإدانة وعزلة أمريكية متنامية
ما يميز هذه الخطوة الأمريكية هو حجم الإدانات الدولية التي تلتها.
إسبانيا: رئيس الوزراء بيدرو سانشيز وصف القرار بـ"الجائر"، وأكد دعم مدريد للرئيس عباس.
فرنسا: وزير الخارجية جان نويل بارو اعتبر أن "الوصول إلى مقر الأمم المتحدة لا يمكن أن يكون خاضعًا لقيود سياسية".
بلجيكا: وزير الخارجية ماكسيم بريفو وصف القرار بأنه "مؤسف للغاية" و"ضربة للدبلوماسية".
هذه المواقف الأوروبية لم تأتِ من فراغ، فهي تعكس تغيرًا في المزاج السياسي الأوروبي، الذي بات يقترب أكثر من الاعتراف بدولة فلسطين كخطوة ضرورية لمواجهة الكارثة الإنسانية والسياسية في غزة، كما تكشف عن عزلة متزايدة لواشنطن، التي وجدت نفسها في مواجهة انتقادات من أقرب حلفائها الغربيين.
"إسرائيل" وامتنان نتنياهو – استثمار القرار لتكريس الاستعمار
لم تُخفِ "إسرائيل" فرحتها بالقرار الأمريكي، بل اعتبرته مكسبًا سياسيًا كبيرًا، وزير الخارجية جدعون ساعر شكر واشنطن واصفًا القرار بأنه "مبادرة شجاعة"، فيما ذهب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أبعد من ذلك حين اعتبر أن الخطوة تجسد تحالفًا استراتيجيًا راسخًا مع الولايات المتحدة.
الأخطر أن نتنياهو استغل الموقف لمهاجمة فرنسا، بعد دعوة الرئيس إيمانويل ماكرون للاعتراف بالدولة الفلسطينية، معتبرًا أن هذه الدعوة "أججت نار معاداة السامية"، بهذه اللغة، يسعى نتنياهو إلى شيطنة أي اعتراف دولي بفلسطين باعتباره شكلًا من "معاداة السامية"، وهو خطاب باتت واشنطن تتبناه ضمنيًا لتبرير قمع الحقوق الفلسطينية.
امتنان نتنياهو لترامب هنا ليس مجرد مجاملة دبلوماسية، بل هو إعلان صريح بأن تل أبيب تعتبر واشنطن ليست فقط راعية، بل شريكًا مباشرًا في معركة منع فلسطين من نيل الشرعية الدولية.
الأبعاد الدولية: السيطرة الأمريكية على النظام العالمي
القرار الأمريكي يسلط الضوء على إشكالية أعمق: إلى أي مدى تستطيع واشنطن استخدام موقعها للسيطرة على المؤسسات الدولية؟
منذ تأسيس الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، كان الهدف أن تكون المنظمة مظلة محايدة لجميع الدول، لكن استضافة الولايات المتحدة لمقرها في نيويورك منح واشنطن أداة نفوذ إضافية، سرعان ما تحولت إلى وسيلة ابتزاز سياسي.
بمنعها الرئيس الفلسطيني، لم تنتهك واشنطن فقط اتفاقية المقر، بل أرسلت أيضًا رسالة مفادها بأن صوت أي دولة أو شعب لا يتوافق مع سياساتها يمكن إسكاتُه ببساطة عبر قرار إداري، هذا يكشف الطبيعة الاستعمارية الجديدة للهيمنة الأمريكية، التي لم تعد تكتفي بالتحكم في قرارات مجلس الأمن عبر الفيتو، بل باتت تتحكم حتى في من يُسمع صوته في الجمعية العامة.
التداعيات المحتملة: الأمم المتحدة بين الشرعية والاختطاف
القرار الأمريكي يضع الأمم المتحدة أمام اختبار مصيري، فإذا قبلت المنظمة الدولية بهذا الانتهاك وسارت أعمال الجمعية العامة بشكل طبيعي دون مشاركة الوفد الفلسطيني، فإنها تكون قد فقدت جزءًا كبيرًا من شرعيتها كمؤسسة تمثل جميع الشعوب.
لهذا، تبرز دعوات فلسطينية ودولية لنقل اجتماعات الجمعية العامة إلى جنيف أو أي مدينة محايدة أخرى، على غرار ما حدث عام 1988، بل هناك من يذهب أبعد من ذلك، مطالبًا بنقل مقر الأمم المتحدة بالكامل من نيويورك إلى عاصمة دولية محايدة مثل جنيف أو فيينا، لضمان استقلالية المنظمة وحمايتها من الابتزاز السياسي الأمريكي.
ختام القول
قرار واشنطن منع الرئيس الفلسطيني ووفده من حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ليس حدثًا عابرًا، بل علامة فارقة تكشف عن حجم التعنت الأمريكي في فرض هيمنته على العالم، وعن الانحياز المطلق لإسرائيل، وعن الاستعداد لانتهاك القانون الدولي من أجل حماية مشروع استعماري استيطاني فقد شرعيته أمام الرأي العام العالمي.
وفي مقابل الامتنان الإسرائيلي لهذه الخطوة، تبرز إدانات دولية واسعة، ما يعكس تحولًا تدريجيًا في موازين الرأي العام العالمي لمصلحة الحق الفلسطيني، لكن هذا التحول لن يكتمل إلا إذا تحرك الفلسطينيون ومعهم الشعوب العربية وقوى التحرر في العالم لإعادة بناء مشروعهم الوطني بعيدًا عن الأوهام، ومواجهة "الأصيل الأمريكي" لا "الوكيل الإسرائيلي" فحسب.
إن لحظة 2025 تعيد إلى الأذهان لحظة 1988، لكنها أكثر خطورة لأنها تجري في ظل حرب إبادة مفتوحة ضد الفلسطينيين، وأكثر أهمية لأنها تكشف أن النظام الدولي كله أصبح مهددًا بالاختطاف إذا لم يواجه المجتمع الدولي سطوة الولايات المتحدة ويعيد الاعتبار لشرعية الأمم المتحدة كمنبر لجميع الشعوب، لا كأداة بيد قوة عظمى واحدة.