الوقت- في الفترة القصيرة التي تلت قرار ترامب بتعيين ممثل خاص للعراق، برز مارك صوايا بنشاط كبير، مستخدمًا الدبلوماسية غير الرسمية في إطار مهمته، ويتجلى ذلك بوضوح في زياراته العديدة إلى مناطق مختلفة من العراق ولقاءاته مع كبار المسؤولين في بغداد، وتكشف هذه التحركات، التي جرت قبيل الانتخابات البرلمانية العراقية، الجوانب الخفية والاستراتيجية لمهمة صوايا، وتُظهر أن أنشطته تتجاوز الإطار الرسمي وتهدف إلى توجيه العملية السياسية.
مهمة المصالحة مع السنة العراقيين
نظرًا لأهمية التأثير على الرأي العام للدول واكتساب المصداقية كأحد أهداف الحكومات في سياستها الخارجية، ولا سيما من خلال الدبلوماسية العامة والأنشطة الإعلامية، ركّز صوايا منذ بداية مهمته على هذا المجال لإعادة بناء وتعزيز مكانة أمريكا لدى الشعب العراقي من خلال التواصل الوثيق مع مختلف شرائح المجتمع وأعراقه وأديانه، وفي خطوة أولى، زار صوايا مؤخرًا مدينة الموصل ونشر صوره على مواقع التواصل الاجتماعي تحت عنوان "الدبلوماسية العامة مع الشعب"، وبوصفه الموصل مدينة رائدة في العلوم والثقافة، سعى صوايا إلى إظهار وجه خيري لتنمية هذه المدينة لدى سكانها.
"بفخرٍ وفرحٍ كبيرين، نتقدم بأحرّ التهاني لأهالي نينوى لتوقيعهم مذكرة تفاهمٍ تاريخية مع الولايات المتحدة الأمريكية لإنشاء مركز أبحاثٍ دولي في قلب الموصل، المدينة التي تستعيد مكانتها الحقيقية على الساحة العالمية"، كتب صوايا في أول تغريدةٍ له من الرحلة، وأضاف: "هذه الخطوة البناءة حافزٌ قويٌّ لتعزيز التعاون المشترك، ورفع اسم الموصل بين المدن الرائدة، ورسم مستقبلٍ مزدهرٍ ومتطورٍ للأجيال القادمة".
يأتي هذا في الوقت الذي أعلن فيه المدير العام لدائرة حفظ وترميم الآثار في وزارة الثقافة العراقية مؤخرًا عن خطةٍ لإنشاء مدينةٍ أثريةٍ في الموصل، ويسعى صوايا، من خلال الاستفادة من الخلفية الحضارية للمنطقة، إلى إظهار نفسه متماشيًا مع تاريخ وثقافة العراق، ورسم وجهٍ قريبٍ من القيم الوطنية والتاريخية للبلاد.
ويسعى صوايا إلى تحسين النظرة السلبية والمريبة تاريخيًا لدى السنة العراقيين تجاه الولايات المتحدة، والتي تطورت منذ الاحتلال، على الرغم من أن السنة، مثلهم مثل الأكراد والشيعة، لهم نصيبٌ في الهياكل السياسية والأمنية، إلا أن الرأي السائد بينهم هو أن الوضع قد تغير لصالحهم، ويعكس انخفاض مشاركة العرب السنة في الانتخابات البرلمانية في جميع الفترات السابقة نظرتهم السلبية للاتجاهات السياسية بعد عام 2003.
في عهد البعث، كان السنة يتمتعون بمكانة أفضل، ويلقي العديد من زعماء العشائر السنية باللوم على الولايات المتحدة في الوضع الحالي، لذا، فإن مهمة صوايا في العراق هي محاولة لإعادة بناء ثقة السنة ومواءمتهم مع سياسات واشنطن، بهدف تعزيز النفوذ الأمريكي في الساحة السياسية والاجتماعية في هذه المناطق، وتشكيل ميزان القوى في العراق بما يخدم الأهداف الاستراتيجية لواشنطن.
النفوذ لدى مسؤولي بغداد
بما أن أي تأثير على الهياكل السياسية لأي بلد يتحقق عادةً من خلال التفاعل مع ساسته، يسعى مارك صوايا أيضًا إلى جذب انتباه مسؤولي حكومة بغداد، وفي هذا الصدد، التقى برئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني وتحدث معه عشية الانتخابات البرلمانية، في مقطع فيديو نُشر من اللقاء، هنأ السوداني صوايا بعيد ميلاده، واصفًا إياه بـ"الابن البار" ومتمنيًا له التوفيق، وقد جاء نشر الفيديو بهدف إظهار علاقات صوايا الودية والصادقة مع المسؤولين العراقيين، وإظهاره كشخصٍ كريم وداعمٍ لمصالح العراق في الفضاء الإلكتروني.
وبعقد مثل هذه اللقاءات، يسعى الممثل الخاص الأمريكي إلى إظهار صورة التعاون الوثيق والواسع بين بغداد وواشنطن، والتأكيد على أن هدف الولايات المتحدة، خلافًا لادعاءات فصائل المقاومة، هو ترسيخ الاستقرار في العراق، وكان صوايا قد كرر سابقًا شعار ترامب الانتخابي، وادعى أنه ينوي "جعل العراق عظيمًا مرة أخرى"، لكن وراء هذه الشعارات الخادعة، تكمن خطط خطيرة لا هدف لها سوى إضعاف الهياكل السياسية والحكومية في العراق.
وتُظهر هذه الإجراءات أن واشنطن، باستخدام أدواتها الدبلوماسية والإعلامية، تسعى إلى تعزيز نفوذها وتوجيه التوجهات السياسية والأمنية في العراق بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، كما أن السيطرة على التوجهات السياسية العراقية تسمح لواشنطن بوضع شخصيات تتوافق مع سياساتها في مناصب حكومية رئيسية ودفع مسار تنفيذ المشاريع الاقتصادية والأمنية بأقل قدر من المقاومة، حتى صوايا ذهب مؤخرًا إلى أبعد من ذلك في تدخله السافر، مطالبًا البيت الأبيض باختيار المناصب والوزارات الرئيسية في الحكومة المقبلة للبلاد، وهو جزء من استراتيجية أمريكا طويلة المدى للحفاظ على التفوق الجيوسياسي في العراق والمنطقة.
ولا تسعى الولايات المتحدة عادةً إلى التواصل البنّاء مع الحكومات المحلية في الدول التي تُعيّن فيها ممثلين خاصين، بل تهدف هذه التعيينات إلى زعزعة الاستقرار وإجراء تغييرات جذرية في الهياكل السياسية والأمنية لتلك الدول، تتيح هذه الإجراءات لواشنطن تعزيز نفوذها في المؤسسات الحكومية وقوات الأمن، والحد من حركات المعارضة، وتوجيه السياسات الداخلية للدولة المستهدفة نحو المصالح والأهداف الاستراتيجية الأمريكية.
تفكيك جماعات المقاومة
من الأهداف الأخرى لتعيين ترامب للممثل الخاص في العراق مواجهة النفوذ المتزايد لجماعات المقاومة وتقليص دورها في الساحة السياسية والأمنية للبلاد. تعتقد واشنطن أن الجماعات ذات الروابط العميقة مع إيران ومحور المقاومة هي أكبر عقبة أمام تحقيق أهدافها الاستراتيجية في العراق والمنطقة، لذلك، عشية الانتخابات البرلمانية، تتجاوز مهمة صوايا الدبلوماسية التقليدية، ويتعين عليه الحد من نفوذ هذه الجماعات من خلال التيارات السياسية المتحالفة مع واشنطن، وتوجيه حكومة بغداد بالتنسيق مع السياسات الأمريكية.
وتُدرك واشنطن جيدًا أنه طالما أن لجماعات المقاومة نفوذًا كبيرًا، فإن أي محاولة للهيمنة على العراق سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا ستفشل، ونظرًا لاكتساب هذه الجماعات نفوذًا وسلطة كبيرين في الهياكل الأمنية والسياسية العراقية على مدى العقد الماضي، تسعى واشنطن جاهدةً لإزاحة قوات الحشد الشعبي من السلطة بكل الوسائل الممكنة، وتحقيق أهدافها الاستراتيجية في العراق.
في الأشهر الأخيرة، أبدت الولايات المتحدة بوضوح معارضتها لاستمرار هذه الحركات في أنشطتها السياسية والعسكرية، وذلك من خلال عرقلة إقرار مشروع قانون الحشد الشعبي في البرلمان، ومعاقبة بعض جماعات المقاومة، والتهديد بهجوم إسرائيلي وشيك على مواقعها في الأراضي العراقية.
منع النفوذ الصيني والروسي في قطاعي النفط والغاز العراقيين
بالإضافة إلى أبعاده السياسية والأمنية، يلعب وجود مارك صوايا في العراق دورًا هامًا في المجال الاقتصادي أيضًا، بالإشارة إلى تصريحات سابقة لدونالد ترامب في شرم الشيخ، الذي أكد فيها أن "العراق يمتلك النفط، لكنه لا يستطيع إدارة شؤونه المالية والنفطية بمفرده"، تتضح مهمة صوايا في هذا المجال.
وتتمثل المهمة الرئيسية لصوايا في هذا المجال في منع توسع النفوذ الروسي والصيني في قطاع النفط والغاز العراقي، الذي يُعتبر محور المصالح الاستراتيجية العالمية للقوى العظمى، يتيح وجود الممثل الخاص للولايات المتحدة لعب دور مباشر في القرارات الاقتصادية والطاقة العراقية خارج الأطر الدبلوماسية، ويمهد الطريق لعقود جديدة بين الشركات الأمريكية والعراق، ويمكن تحليل الاتفاقيات المبرمة سابقًا بين الشركات الأمريكية وحكومة إقليم كردستان في إطار هذا المنظور الاقتصادي.
وتُعد هذه العقود، التي تشمل استثمارات في استخراج وتصدير النفط والغاز، جزءًا من استراتيجية شاملة للسيطرة على سلسلة قيمة الطاقة في العراق وتقليل الاعتماد على الجهات المنافسة، من وجهة نظر المحللين، تعكس مهمة صوايا مزيجًا من السياسة الأمنية والاقتصادية الأمريكية في العراق، للحد من النفوذ الإقليمي للمنافسين العالميين وضمان مصالح واشنطن في مجالي الطاقة والجيوسياسية، وإضعاف ترتيبات ائتلاف ما بعد الانتخابات.
وفي ظلّ خوض العراق حاليًا لمرحلة حاسمة، واستعداده لإجراء انتخابات برلمانية، يسعى مارك صوايا للتأثير على العملية الانتخابية وتوجيه نتائجها بما يخدم الأهداف الاستراتيجية الأمريكية، بما يخدم مصالح واشنطن في الساحة السياسية العراقية، وإلى جانب تسليح واشنطن للبرلمان، ينصبّ تركيزه الرئيسي على تشكيل وإدارة ائتلافات ما بعد الانتخابات، لما لهذه الائتلافات من دور حاسم في انتخاب رئيس الوزراء والرئيس.
ونظرًا لأن ائتلاف إطار التنسيق الشيعي، باعتباره التيار المهيمن، سيطر على الساحة السياسية في الدورتين الماضيتين، فإن مهمة صوايا تتمثل في إضعاف نفوذ هذا الائتلاف، وفي الوقت نفسه تعزيز التيارين الكردي والسني، لضمان وصول الشخصيات المتوافقة مع سياسات واشنطن إلى المناصب القيادية، وتوجيه القرارات السياسية والاقتصادية بما يتوافق مع المصالح الأمريكية، وتعتبر هذه الإجراءات مثالاً واضحاً على التدخل المباشر لواشنطن في السياسة الداخلية العراقية، ومحاولة إعادة تحديد موازين القوى في البلاد من أجل تعزيز النفوذ الأمريكي على المسار السياسي والتنفيذي في بغداد.
