الوقت- في الوقت الذي يواصل فيه الكيان الإسرائيلي بدعم أمريكي وغربي مساعيه لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين وإغلاق ملف حق العودة، جاءت جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم أمس لتقلب المعادلة مؤقتًا، عبر تجديد التفويض الممنوح لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الأونروا حتى 30 يونيو/حزيران 2029. هذا القرار، الذي حاز تأييد 151 دولة مقابل رفض 10 دول وامتناع 14 دولة عن التصويت، لم يكن إجراءً روتينيًا بقدر ما عُدّ رسالة سياسية واضحة بأن المجتمع الدولي رغم الانحيازات والضغوط لم يقبل بعد بشطب القضية الفلسطينية من الذاكرة الأممية.
الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي، اللذان اعتادا التصويت ضد القرارات المتعلقة بفلسطين، وقفا في صف الرافضين للتمديد، بينما امتنعت دول أوروبية بارزة مثل ألمانيا، إيطاليا، ألبانيا، بلغاريا وجمهورية التشيك عن التصويت في موقف يعكس تذبذب السياسات الأوروبية بين الضغوط الإسرائيلية والملفات الإنسانية. وفي المقابل، اعتبر فيليپ لازاريني المفوض العام للأونروا أن هذه الخطوة تعبّر عن تضامن واسع مع اللاجئين الفلسطينيين، مؤكّدًا أنّ القرار يحمّل المجتمع الدولي مسؤولية حماية حقوق الفلسطينيين الإنسانية ريثما تتحقق تسوية عادلة ودائمة.
هذه التطورات تأتي في ظل واحدة من أعنف الحملات السياسية والإعلامية التي تتعرض لها الأونروا منذ إنشائها عام 1949، إذ يسعى الكيان الإسرائيلي منذ سنوات إلى إضعافها وتجفيف مواردها والضغط على الدول المانحة لوقف تمويلها، باعتبارها “العقبة الأكبر” أمام خطته التاريخية لتصفية ملف اللاجئين الفلسطينيين وإنهاء حق العودة، تمهيدًا لفرض روايته الاستعمارية على أرض فلسطين.
ما هي الأونروا؟ ولماذا تُعدّ صداعًا في رأس الاحتلال؟
تأسست وكالة الأونروا بقرار أممي صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بهدف تقديم الخدمات الإغاثية والتنموية للاجئين الفلسطينيين الذين هجّروا قسرًا من أرضهم عقب النكبة عام 1948. وتقدّم الوكالة خدمات التعليم والصحة والمساعدات الغذائية والاجتماعية لـ أكثر من 5.9 ملايين لاجئ فلسطيني في خمس مناطق رئيسية: غزة، الضفة الغربية، الأردن، سوريا ولبنان. وتُعدّ الوكالة شريان حياة رئيسي لأكثر من 1.6 مليون إنسان في قطاع غزة المحاصر، وتشغّل آلاف الموظفين، معظمهم من اللاجئين أنفسهم، ما يجعلها الركيزة الإنسانية الأولى التي يعتمد عليها ملايين الفلسطينيين يوميًا.
لكن الأونروا رغم هويتها الإنسانية البحتة لم تسلم من الاستهداف الإسرائيلي. فمنذ اللحظة الأولى لتأسيسها، أدرك الكيان الإسرائيلي أن مجرد وجود مؤسسة دولية معترف بها رسميًا تُعنى باللاجئين الفلسطينيين يعني تثبيتًا تاريخيًا وقانونيًا لرواية النكبة، وتذكيرًا دائمًا بأن هناك شعبًا طُرد من أرضه بقوة السلاح، وأنّ حق العودة لم يُمحَ رغم مرور أكثر من سبعين عامًا. هذه الحقيقة تجعل الأونروا بالنسبة للاحتلال تهديدًا سياسيًا أكبر من كونها مؤسسة إغاثية.
استهداف الأونروا… محاولة لتصفية حق العودة
لم يكن تصعيد الكيان الإسرائيلي ضد الأونروا وليد حرب غزة فقط، بل جاء امتدادًا طويلًا لمشروع استعماري يهدف إلى إسقاط حق العودة من الحسابات السياسية الدولية. ومع بداية عام 2024، أعلنت حكومة الاحتلال تعليق عمل الوكالة في القدس الشرقية بذريعة مشاركة بعض موظفيها في أحداث 7 أكتوبر، رغم عدم وجود أدلة قاطعة، ورغم بدء تحقيق أممي لم تُنتظر نتائجه أصلًا. وسرعان ما تحوّل الأمر إلى حملة دبلوماسية وضغوط على الدول المانحة لوقف التمويل، في محاولة واضحة لإغلاق الوكالة أو تقليص دورها تدريجيًا.
في الحسابات الإسرائيلية، اختفاء الأونروا يعني حصر مسؤولية اللاجئين في السلطة الفلسطينية أو الدول المضيفة، وبالتالي دفن ملف العودة تحت ركام الزمن. فوجود ملايين الفلسطينيين في المخيمات يمثل برهانًا عمليًا على جريمة التهجير القسري والاقتلاع الجماعي التي بُني عليها الكيان الإسرائيلي. وإلغاء الوكالة يعني بالنسبة لهم إزالة آخر شاهد حي على أصل الصراع.
لماذا يخشى الكيان الإسرائيلي استمرار الأونروا؟
يمكن تلخيص الأسباب الجوهرية لهذا العداء في سبعة محاور أساسية:
1. الأونروا شاهد تاريخي على النكبة
وجودها يفضح حقيقة الكيان الإسرائيلي ككيان استيطاني أُقيم بالقوة على أرض ليست له، ويكشف جذور المظلومية الفلسطينية الممتدة منذ 1948.
2. توثّق نتائج التطهير العرقي
المخيمات التي تديرها الأونروا هي شهادة حية على جرائم التطهير العرقي بحق الفلسطينيين، وعلى استمرار آثار تلك الجريمة حتى اليوم.
3. تفنّد الرواية الصهيونية
مقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" تنهار أمام ملايين اللاجئين المسجلين في ملفات الأمم المتحدة.
4. إبقاء القضية حيّة
وجود الوكالة يعني إبقاء ملف اللاجئين مفتوحًا، وبالتالي إبقاء الصراع قائمًا وعدم إمكانية تمرير "تسوية نهائية" تلغي الحق التاريخي للفلسطينيين.
5. تعطّل شرعنة الاحتلال قانونيًا
الكيان الإسرائيلي قُبل في الأمم المتحدة بشرط تنفيذ القرارين 181 و194 القاضيين بعودة اللاجئين وإقامة دولة فلسطينية، وهو ما لم يحدث.
6. عقبة أمام مشروع الهيمنة الكاملة
إغلاق الأونروا يعني فتح الطريق أمام الكيان الإسرائيلي لتثبيت احتلاله بلا مساءلة قانونية دولية.
7. فشل في طمس الهوية
رغم مرور عقود، لا تزال الأجيال الفلسطينية الجديدة تحمل الذاكرة الوطنية ذاتها، لتفشل مقولة بن غوريون الشهيرة: "الكبار يموتون والصغار ينسون".
الأونروا تحت النار… حرب ممنهجة ضد المخيمات والخدمات
لا يقتصر الاستهداف الإسرائيلي على الحملة الدبلوماسية، بل يتجلى كذلك في تدمير واسع لمقرات الأونروا في قطاع غزة خلال الحرب، وقصف المدارس التابعة لها، وقتل العشرات من العاملين، في خطوة يراها مراقبون جزءًا من سياسة ممنهجة تهدف إلى خلق أزمة إنسانية خانقة، ودفع المجتمع الدولي نحو خيارات بديلة تكون تحت الإدارة الإسرائيلية أو عبر منظمات غير أممية.
وفي الضفة الغربية، تتعرض المخيمات لعمليات اقتحام متكررة، بينما يُحاصر عمل الأونروا في القدس بشكل شبه كامل. هذه السياسة لا يمكن تفسيرها فقط ضمن إطار الحرب، بل تُقرأ كجزء من مشروع لتفكيك البنية الاجتماعية والسياسية التي تحافظ على ذاكرة اللجوء.
ما بعد التجديد الأممي… هل انتصرت الأونروا؟
رغم أن تصويت الجمعية العامة يمثل صفعة لجهود التفكيك الإسرائيلية، إلا أنّ الحرب على الأونروا لم تنتهِ، بل قد تشتد خلال السنوات المقبلة عبر:
- الضغط على الدول المانحة لوقف التمويل؛
- محاولة خلق بدائل مؤسساتية محلّية لإحلالها تدريجًا؛
- تشويه صورة الوكالة إعلاميًا باتهامات متكررة؛
- استثمار علاقات الكيان الإسرائيلي داخل لوبيات صنع القرار لتعليق الدعم الغربي.
من ناحية أخرى، فإن نجاح القرار الأممي يضع الكرة في ملعب المجتمع الدولي، الذي بات مطالبًا بترجمة الموقف السياسي إلى تمويل مستدام يضمن استمرار عمليات الوكالة التي يعتمد عليها ملايين الفلسطينيين للبقاء.
الأونروا ليست مؤسسة إغاثية فحسب، بل هي ذاكرة سياسية وقانونية للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. استمرارها يعني بقاء الاعتراف الأممي بوجود لاجئين اقتلعوا من أرضهم بالقوة، واستمرار حق العودة كحق ثابت لا يسقط بالتقادم. لذلك، تستميت حكومة الاحتلال في حربها على الوكالة، مدركة أن زوالها قد يكون الخطوة الأولى نحو فرض الرواية الصهيونية تاريخيًا وقانونيًا.
لكن قرار التجديد الأخير يؤكد أن العالم، رغم الضغوط والانحيازات، لم يستسلم بعد لمحاولات محو التاريخ، وأن ملف اللاجئين سيبقى حاضرًا على طاولة السياسة الدولية حتى إيجاد حل عادل وشامل يعيد للفلسطينيين حقهم الطبيعي في وطنهم.
استمرار الأونروا هو استمرار للقضية، واستهدافها هو استهداف لذاكرة شعب ومظلوميته. وبين من يسعى للتصفية ومن يتمسك بالحقوق، يبقى السؤال مفتوحًا للسنوات القادمة: هل سينجح المجتمع الدولي في حماية الوكالة؟ أم سينجح الكيان الإسرائيلي في معركته الطويلة لمحو الذاكرة الفلسطينية؟ الزمن وحده سيجيب، لكن الوقائع حتى الآن تقول:الأونروا لم تنتهِ… والقضية لم تمت.
