الوقت- تدخل غزة الشهر الثاني من اتفاق وقف إطلاق النار، لكن الواقع على الأرض لا يعكس أيّ التزام بالاتفاق، ولا حتى مؤشرات أولية على تهدئة حقيقية، فالأيام الماضية حملت معها استمراراً لسياسة القتل المنهجي، والتدمير الواسع، وقصف المناطق السكنية، إضافة إلى فرض قيود خانقة على دخول المساعدات، في مشهد يبرز بوضوح أن الكيان الإسرائيلي يتعامل مع الاتفاق كغطاء مؤقت لمواصلة جرائمه ضد الفلسطينيين.
ورغم نصوص الاتفاق التي أشارت إلى وقف لإطلاق النار والسماح بتدفق المساعدات الإنسانية، تؤكد الوقائع اليومية أن الخروقات تجاوزت المئتين والخمسين خرقاً موثّقاً، وفق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، شملت قتلاً مباشراً، واستهدافاً لمنازل المدنيين، وعمليات إطلاق نار متكررة على الأطراف الشرقية للمدن، إلى جانب استمرار سياسة نسف المنازل في المناطق المصنّفة «الخط الأصفر» شرقي القطاع.
حياة تُنتهك رغم الاتفاق
أعلنت وزارة الصحة في غزة أن المستشفيات استقبلت خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية ثلاثة شهداء جدد، بينهم شهيد متأثر بجراحه، إضافة إلى ثلاث إصابات، ومنذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، ارتقى 242 شهيداً نتيجة خروقات متتالية للكيان الإسرائيلي، إلى جانب 622 إصابة، فضلاً عن انتشال 529 جثماناً من تحت الركام، ما يشير إلى حجم الدمار الذي لم يتوقف رغم الاتفاق.
وبذلك ترتفع حصيلة العدوان منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 69,179 شهيداً و170,693 إصابة، وهي أرقام مرعبة تُظهر أن اتفاق وقف إطلاق النار لم يكن أكثر من هدنة من طرف واحد، بينما واصل جيش الاحتلال عملياته العسكرية على الأرض تحت ذرائع مختلفة.
ولا تزال طواقم الإسعاف والدفاع المدني عاجزة عن الوصول إلى كثير من الضحايا تحت الأنقاض أو في الطرقات المكشوفة، بسبب استمرار القصف ومنع الوصول إلى بعض المناطق الشرقية والشمالية.
ميدانيًا: قصف ونسف وتدمير ممنهج
شهدت مدينة خان يونس جريمة جديدة عندما وصل إلى مستشفى ناصر شهيدان قضيا في قصف إسرائيلي استهدفهما شرق المدينة، كما أفاد شهود عيان بعمليات تفجير واسعة نفذها جيش الاحتلال في المناطق الشرقية، حيث سُمع دوي انفجارات متتالية أعقبها تصاعد كثيف للدخان، في مشهد تكرر مراراً خلال الأسابيع الماضية.
وأكدت مصادر محلية أن الكيان الإسرائيلي يعمد يومياً إلى تدمير ما تبقى من منازل المواطنين في المناطق القريبة من الحدود، في سياسة تهدف إلى خلق «منطقة عازلة» تمتد على طول الحدود الشرقية للقطاع، في انتهاك جديد لبنود الاتفاق والقانون الدولي الإنساني على حد سواء.
وفي مدينة غزة، شن الطيران الحربي عدة غارات على مناطق تخضع لسيطرته أصلاً، ما يكشف أن الهدف هو توسيع الدمار وليس استهداف مجموعات مسلّحة، وتسبب القصف في تدمير منازل وأحياء كاملة، وخاصة في حي الزيتون جنوب شرق المدينة، وسط تحليق كثيف للطائرات المسيّرة فوق المنطقة.
أما في حي الشجاعية، فقد كثفت الدبابات الإسرائيلية عمليات إطلاق النار لمنع الأهالي من العودة إلى منازلهم أو تفقد ممتلكاتهم، وشهدت الأطراف الشرقية لوسط القطاع أيضاً عمليات مشابهة، في سياق سياسة ممنهجة لإفراغ هذه المناطق من سكانها.
وحسب المكتب الإعلامي الحكومي، فإن خروقات الكيان الإسرائيلي خلال الأسابيع الماضية شملت عمليات قتل مباشر، وإصابة أكثر من 800 مدني، وقصف منازل ومنشآت، وإطلاق نار على المزارعين والعمال، وإعاقة متعمدة لتحركات الطواقم الطبية والإغاثية.
ملف الجثامين: جريمة مركّبة وانتهاكات لا تنتهي
لا يقل ملف تبادل الجثامين خطورة عن جرائم القتل والقصف، فقد أعادت سلطات الاحتلال مؤخراً 15 جثماناً لشهداء فلسطينيين عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ليصل عدد الجثامين المُسلّمة منذ وقف إطلاق النار إلى 315 جثماناً.
وعند نقل الجثامين إلى مستشفى ناصر في خان يونس، باشرت اللجنة الطبية المختصة بعرضها على العائلات ومحاولة التعرف إليها، لكن المشهد كان صادماً، إذ أشارت وزارة الصحة إلى أن أغلب الجثامين تحمل آثار تعذيب واضح، بعضها مكبّل الأيدي، وعليه آثار ربط على الوجه والعينين، فضلاً عن إصابات برصاص من مسافة قريبة، وأخرى تظهر عليها علامات الخنق بالحبال.
إنها ليست مجرد عملية تسليم جثامين، بل كشفٌ لجريمة مرتبطة بالتنكيل بالأسرى وإعدامهم، أو ترك جثامينهم تتحلل لأسابيع قبل التسليم، في انتهاك صارخ لكل المواثيق الدولية المتعلقة بحماية الأسرى والشهداء.
وتشير المعلومات إلى أن عائلات قليلة تمكنت من التعرف على 91 جثماناً فقط من أصل 315، بسبب التشويه الشديد الذي أصابها، وفي حالات كثيرة لم تجد الطواقم الطبية بداً من دفن الجثامين مجهولة الهوية، بعد عرضها على ذوي الضحايا دون نتيجة.
وجاء تسليم الجثامين الـ 15 بعد أن سلّمت المقاومة في غزة جثمان الضابط الإسرائيلي هدار غولدن، الذي كان محتجزاً لدى كتائب القسام منذ حرب 2014، حيث تمكنت المقاومة من انتشال جثمانه من أحد الأنفاق في رفح، وهو ما يكشف أن ملف الجثامين لا يُدار إنسانياً، بل يُستخدم كورقة تفاوض وضغط سياسي من قبل الكيان الإسرائيلي.
المساعدات الإنسانية: استمرار خنق القطاع رغم الاتفاق
ورغم وضوح بند المساعدات في اتفاق وقف إطلاق النار، والذي ينص على دخول 600 شاحنة مساعدات يومياً، إلا أن الكيان الإسرائيلي يواصل التحكم الكامل في كمية ونوعية البضائع التي تُدخل إلى القطاع، ويسمح فقط بدخول الحد الأدنى، ما أدى إلى استمرار الأزمة الإنسانية على حالها.
وبينما تتفاقم معاناة السكان مع دخول فصل الشتاء وازدياد الأمطار، أعلنت اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزة وصول أولى دفعات خيام الإيواء ضمن الجسر البري الذي أطلقته الدوحة مؤخر، وتشمل الدفعة الأولى جزءاً من 87,754 خيمة خصصتها قطر لإيواء أكثر من 436 ألف نازح في مختلف مناطق القطاع.
وإلى جانب توفير الخيام، ساهمت قطر خلال الأسابيع الماضية في توزيع مساعدات غذائية واسعة، إضافة إلى جهودها في إعادة فتح الطرق المغلقة بفعل الركام، عبر توفير معدات هندسية ومساندة الطواقم المحلية.
لكن هذه الجهود تصطدم بواقع شديد القسوة: سيطرة الكيان الإسرائيلي على المعابر ومنعه دخول الإمدادات الأساسية، بما فيها مواد البناء، والوقود، والمعدات الطبية، مما يضاعف الأزمة ويزيد من صعوبة حياة مئات الآلاف من النازحين.
شتاء كارثي يهدد 300 ألف نازح
مع حلول فصل الشتاء، تتعالى التحذيرات من كارثة إنسانية بسبب سوء أوضاع المخيمات، فقد أكدت جهات محلية ودولية أن القطاع بحاجة إلى 300 ألف خيمة جديدة على الأقل لتعويض الخيام المهترئة التي لا تقوى على مواجهة الأمطار أو الرياح.
وفي رفح، حذرت البلدية من أزمة إنسانية غير مسبوقة. وقال رئيسها أحمد الصوفي إن عشرات الآلاف من النازحين يعيشون في مخيمات مكتظة في مواصي رفح ومناطق أخرى في الجنوب والوسط، وسط نقص حاد في الخدمات، وغياب المأوى المناسب، وانعدام مقومات الحماية الأساسية.
وأشار الصوفي إلى أن الخيام الحالية فقدت قدرتها على الصمود، وأن أي منخفض جوي قد يسبب «مأساة حقيقية» قد تطال الأرواح، وخاصة الأطفال وكبار السن، الذين يعيشون في ظروف تتنافى بالكامل مع أدنى معايير الحياة الإنسانية.
اتفاق بلا التزامات… وقطاع يعيش على حافة الكارثة
تشكّل مجمل التطورات الأخيرة صورة واضحة: وقف إطلاق النار في غزة هو اتفاق شكلي من جهة واحدة، بينما يواصل الكيان الإسرائيلي تنفيذ سياسته العسكرية والأمنية كما لو أن شيئاً لم يتغير، القتل مستمر، والتدمير يتواصل، والمساعدات تُمنع، والنازحون يعيشون مأساة مفتوحة.
وفي ظل غياب آليات دولية حقيقية للرقابة والمحاسبة، تبدو غزة اليوم تحت رحمة قوة عسكرية لا تعبأ بالقانون الدولي، ولا بالاتفاقات، ولا بالمنظمات الإنسانية، فبين استمرار القصف وغياب الإغاثة وتفاقم معاناة النازحين، يعيش سكان القطاع فصلاً جديداً من فصول المأساة الطويلة التي لم تتوقف منذ أكثر من عام.
لقد دخل الاتفاق شهره الثاني، لكن غزة ما زالت تنزف… وشعبها ما زال يقف وحيداً في مواجهة آلة البطش الإسرائيلية، منتظراً موقفاً دولياً حقيقياً يضع حداً لهذه المأساة المتجددة.
