الوقت- أثار القصف الإسرائيلي الأخير الذي استهدف منشآت الكهرباء جنوب صنعاء ردود فعل متسارعة على المستويين الإقليمي والدولي، غير أن أبرزها كان الموقف الأمريكي المفاجئ الذي سارع إلى نفي أي دور له في العملية، سواء من الناحية الاستخباراتية أو اللوجستية، وبينما وجدت الولايات المتحدة نفسها في مأزق بين الدفاع عن حليفها الاستراتيجي "إسرائيل" والحفاظ على التفاهمات الهشة مع الحوثيين، برزت معادلة معقدة تعكس حجم التشابك في ملفات البحر الأحمر واليمن والحرب على غزة.
نفي أمريكي وتطمينات حذرة
أكد مسؤول أمريكي لموقع المونيتور أن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) لم تقدّم أي مساعدة لـ"إسرائيل" في استهداف صنعاء، موضحًا أن واشنطن لا تريد أن تمنح الحوثيين سببًا للانسحاب من اتفاق وقف إطلاق النار، وأشار المسؤول نفسه إلى أن البحرية الأمريكية اعترضت صواريخ حوثية متجهة إلى الأراضي المحتلة، لكنها لم تشارك في القصف على اليمن، وهو ما اعتُبر محاولة لتأكيد الطابع الدفاعي فقط للتدخل الأمريكي في المنطقة.
اعتراف بفعالية الحصار الحوثي
الأكثر لفتًا للانتباه في التصريحات الأمريكية هو الاعتراف بأن الحوثيين نجحوا في فرض حصار بحري فعّال ضد "إسرائيل" عبر البحر الأحمر، هذا الإقرار يعكس تحوّلًا نوعيًا في موازين القوى الإقليمية، إذ لم يعد الحوثيون مجرد طرف محلي، بل فاعلاً إقليمياً قادراً على تهديد حركة الملاحة العالمية، وتعطيل شرايين التجارة والطاقة المرتبطة بالموانئ الإسرائيلية.
مأزق استراتيجي لواشنطن
هذا الوضع يضع الولايات المتحدة أمام معادلة صعبة: فمن جهة لا يمكنها التخلي عن التزاماتها تجاه "إسرائيل" وضمان أمنها، ومن جهة أخرى تخشى الانجرار إلى مواجهة مفتوحة مع الحوثيين قد تعيد سيناريوهات الحروب الطويلة في العراق وأفغانستان، وهنا يتضح أن النفي الأمريكي لم يكن مجرد تصريح إعلامي، بل جزءاً من سياسة مدروسة لتفادي التصعيد المباشر.
البحر الأحمر كساحة مواجهة
منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023، صعّد الحوثيون من عملياتهم العسكرية في البحر الأحمر، مستهدفين سفنًا مرتبطة بـ"إسرائيل" أو متجهة إلى موانئها، هذا التصعيد دفع الولايات المتحدة إلى إطلاق عملية في ديسمبر من العام نفسه لتأمين الملاحة الدولية، إلا أن النتائج حتى الآن تبقى محدودة، حيث تواصل الطائرات المسيّرة والصواريخ اليمنيه اختراق الدفاعات والوصول إلى أهدافها.
تأثيرات على المشهد اليمني الداخلي
على المستوى الداخلي، أدت الغارة الإسرائيلية الأخيرة إلى تعزيز التماسك الشعبي خلف الحوثيين، إذ يُنظر إلى استهداف البنية التحتية المدنية كجزء من العدوان الخارجي، هذا الواقع يمنح الحركة مزيدًا من الشرعية الداخلية لتصعيد خطابها العسكري والسياسي، ما يعقّد جهود التسوية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة وعُمان منذ أشهر، وبذلك تتحول الغارات إلى عنصر يُعيد ترتيب التوازنات الداخلية بدل أن يضعف الحوثيين.
"إسرائيل" تختبر الحدود
من جانبها، تسعى "إسرائيل" إلى اختبار حدود الردع عبر ضربات ضد العمق اليمني، في محاولة لإظهار قدرتها على توجيه رسائل عسكرية تتجاوز غزة ولبنان، لكنها في الوقت نفسه تراهن على أن الولايات المتحدة ستبقى مظلتها الحامية، وهو رهان محفوف بالمخاطر، إذ قد يعرّض واشنطن لاتهامات بأنها عاجزة عن ضبط حليفتها ويضعها في مواجهة مباشرة مع اليمن.
ضغوط اقتصادية دولية
العمليات البحرية الحوثية لا تنعكس فقط على "إسرائيل"، بل تمتد آثارها إلى الاقتصاد العالمي بأسره، فاضطراب الملاحة في البحر الأحمر يهدد بارتفاع أسعار النفط وتكلفة الشحن، ويؤثر في سلاسل التوريد العالمية، هذه الضغوط الاقتصادية تجعل القوى الكبرى، مثل الصين والاتحاد الأوروبي، أكثر اهتمامًا بإيجاد حل سياسي يضمن استقرار الممرات البحرية، وهو ما يزيد الضغوط على واشنطن للتحرك بطرق دبلوماسية أوسع.
مأزق الوساطات الإقليمية
تزامن هذا التصعيد مع الإعلان قبل أسابيع عن تقدم في المفاوضات بين واشنطن والحوثيين برعاية سلطنة عمان، ما فتح نافذة أمل لوقف شامل لإطلاق النار، غير أن الغارة الإسرائيلية الأخيرة تهدد بإغلاق هذه النافذة، أو على الأقل تعطيلها، وهو ما يعيد الأهمية للدور العُماني في محاولة إبقاء قنوات الحوار مفتوحة، وبالنظر إلى تعقيدات المشهد، تبدو الوساطات الإقليمية والدولية الخيار الوحيد لتفادي انزلاق أكبر.
ما جرى في صنعاء يوضح أن المشهد الإقليمي بات مترابطًا بصورة غير مسبوقة: الحرب في غزة تنعكس على البحر الأحمر، والتوترات في البحر الأحمر تؤثر في المفاوضات حول اليمن، وأي تصعيد في اليمن قد ينعكس مباشرة على أمن "إسرائيل" والمصالح الأمريكية، هذه الدائرة المغلقة تجعل من أي هجوم، حتى لو كان محدودًا، شرارة محتملة لتصعيد واسع لا يمكن التنبؤ بنتائجه، ومن هنا يمكن فهم حرص واشنطن على تبرئة نفسها علنًا من غارة صنعاء، في مسعى لإبقاء الباب مفتوحًا أمام مسار دبلوماسي متعثر أصلًا.
في نهاية المطاف، يظهر أن النفي الأمريكي لم يكن مجرد موقف دعائي، بل يعكس حسابات استراتيجية دقيقة، فالولايات المتحدة تدرك أن أي انخراط مباشر ضد الحوثيين سيمنحهم مبررًا لتوسيع هجماتهم وربما استهداف مصالح أمريكية في البحر الأحمر والخليج، وهو ما قد يفتح جبهة استنزاف جديدة لا ترغب واشنطن بخوضها، ومع ذلك، يبقى واضحًا أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تكون خارج اللعبة بالكامل، فهي شريك أساسي في حماية الملاحة الدولية، وحليف لا غنى عنه لـ"إسرائيل"، وطرف معني بمنع انهيار التفاهمات الهشة في اليمن، وبين هذه التناقضات، سيظل البحر الأحمر وصنعاء وغزة نقاط التقاء لصراع مفتوح يختبر حدود القوة والدبلوماسية في الشرق الأوسط.