الوقت- يواصل الكيان الصهيوني محاولاته الفاشلة لتثبيت معادلات الردع عبر سياسات دموية في قطاع غزة، ورغم جبروت آلة الحرب التي يمتلكها، تكشف الوقائع الأخيرة عن هشاشة استراتيجية جيش الاحتلال الصهيوني، الذي بات يعترف بخسائر فادحة حتى قبل أن يخوض معركة شاملة على الأرض، ما نشرته الصحف العبرية مؤخرًا حول تقديرات الجيش بوقوع ما لا يقل عن مئة قتيل في حال الهجوم على مدينة غزة، يعكس المأزق البنيوي الذي يعيشه هذا الكيان. فالمعضلة لم تعد في قدرته على القتل والتدمير، وإنما في عجزه عن تحقيق نصر سياسي أو عسكري يضمن بقاءه دون تهديد، هنا، يقف قادة الاحتلال أمام خيارات متناقضة: إما المضي في عدوان دموي شامل سيكلفهم خسائر باهظة ويكشف ضعفهم أمام العالم، أو الرضوخ لمسار تسوية يُعد بمثابة إقرار بفشلهم في إخضاع غزة، هذه اللحظة تكشف عن أزمة غير مسبوقة في بنية الكيان.
التقديرات العسكرية بين الخوف والخيبة
التقارير التي صدرت عن الصحف العبرية، وعلى رأسها صحيفة "معاريو"، أظهرت أن جيش الاحتلال الصهيوني يواجه مأزقًا غير مسبوق في تقدير خسائره المحتملة، عندما يُقر الجيش بنفسه أن أي هجوم بري على غزة سيؤدي إلى مقتل ما لا يقل عن مئة جندي من قواته، فهذا اعتراف واضح بالعجز وفقدان السيطرة، هذه التقديرات ليست مجرد أرقام؛ إنها مؤشر على حالة الرعب التي تضرب صفوف الجنود والقيادات العسكرية على السواء، الكيان الصهيوني، الذي طالما تاجر بمفهوم "الجيش الذي لا يُقهر"، بات اليوم مكشوفًا أمام ضعف بنيته الداخلية، ويدرك أن المقاومة الفلسطينية قادرة على كسر هيبته.
الأخطر من ذلك أن هذه الاعترافات تأتي في وقت يسعى فيه جيش الاحتلال إلى تعبئة أكثر من 130 ألف جندي احتياطي، في مشهد يعكس حجم القلق من فشل أي عملية ميدانية، رفع مدة الخدمة الاحتياطية وإجبار الجنود على البقاء في الخدمة خلال العطلات، دليل على استنزاف بشري ومعنوي لم تعهده المؤسسة العسكرية من قبل، هذا التوجه يُظهر أن الكيان يعيش معضلة حقيقية: فهو لا يستطيع تحقيق أهدافه المعلنة دون الدخول في مواجهة مباشرة، لكنه يدرك أن ثمنها سيكون باهظًا إلى درجة قد تهز استقرار جبهته الداخلية.
المأزق السياسي وانقسام القرار
لا يقف مأزق الكيان الصهيوني عند حدود التخبط العسكري، بل يمتد ليصل إلى البنية السياسية وصناعة القرار، تصريحات المصادر الأمنية الصهيونية تكشف عن انقسام عميق بين القيادات: فبينما يسعى بعضهم لفرض تسوية محدودة قد تُنهي جولة التصعيد عبر الإفراج عن الأسرى وفتح باب التفاوض، هناك من يدفع باتجاه اجتياح بري شامل للمدينة مهما كانت التكلفة، هذا الانقسام يعكس إدراكًا ضمنيًا لحقيقة أن الكيان الصهيوني لم يعد قادرًا على إدارة معاركه بذات الحسم السابق.
المفارقة أن الحديث عن مجزرة شاملة بحق سكان غزة لم يعد مجرد تهديد إعلامي، بل خياراً مطروحاً على طاولة القيادة السياسية والعسكرية، غير أن هذا الخيار يحمل في طياته خطورة مضاعفة: فمن جهة، سيؤدي إلى تعميق عزلة الكيان دوليًا ويكشف صورته الحقيقية ككيان دموي استعماري، ومن جهة أخرى قد يفجر جبهات أخرى في المنطقة، وخصوصًا مع تنامي محور المقاومة الذي يرى في صمود غزة نموذجًا يجب دعمه، وهنا تبرز الأزمة الكبرى: الكيان محاصر بين ضغط المقاومة في الداخل، وانعدام القدرة على كسب شرعية سياسية على المستوى الدولي، النتيجة أن قياداته تدور في حلقة مفرغة من التردد، حيث أي قرار يتخذونه سيضعهم في مأزق أكبر.
المقاومة وصناعة معادلة الردع
في مقابل هذا الارتباك الصهيوني، تبرز المقاومة الفلسطينية في غزة كعامل حاسم يعيد صياغة معادلات القوة في المنطقة، المعارك الجارية في أحياء الصبرة والزيتون ليست سوى مقدمة لمعركة أوسع أثبتت فيها المقاومة قدرتها على امتصاص الضربات، والتحول سريعًا إلى موقع الهجوم، جيش الاحتلال الصهيوني يدرك أن أي تقدم بري نحو قلب مدينة غزة يعني الدخول في حرب شوارع لن يخرج منها إلا مثخنًا بالجراح، لهذا السبب، يحاول الجيش التغطية على ضعفه عبر الحديث عن استخدام "نيران كثيفة" وعن خطط لإقامة مراكز إيواء، وكأن مشكلته تكمن في إخلاء المدنيين لا في مواجهة المقاتلين.
لكن الواقع يكشف أن المقاومة نجحت في فرض معادلة جديدة: أي عدوان شامل سيقابل بخسائر غير مسبوقة في صفوف جنود الاحتلال، هذا ما يفسر ارتباك قادة الكيان، الذين وجدوا أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مر، المقاومة اليوم لم تعد مجرد فصيل محاصر، بل باتت لاعبًا إقليميًا قادرًا على تغيير قواعد اللعبة، وبذلك، يتحول قطاع غزة من مجرد ساحة محاصرة إلى عقدة استراتيجية تعجز آلة الحرب الصهيونية عن حلها، ما بين الأنفاق والكمائن والمفاجآت الميدانية، يدرك جيش الاحتلال أن أي دخول إلى غزة سيعني فتح أبواب جهنم عليه.
في الختام، إن اعتراف جيش الاحتلال الصهيوني بتوقع مقتل مئة جندي في حال اجتياح غزة ليس تفصيلًا عابرًا، بل دليلاً على تحوّل جوهري في موازين القوى، الكيان الذي بُني على أوهام القوة والتفوق العسكري يعيش اليوم هاجس الانهيار من الداخل، أمام مقاومة صلبة لا تساوم على حقها، هذا المأزق يكشف أن مشروع الاحتلال برمته قائم على هشاشة لا يمكنها الصمود أمام إرادة الشعوب، غزة لم تعد مجرد مدينة محاصرة؛ إنها اليوم رمز لانكسار أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، ودليل على أن الحق إذا امتلك الإرادة قادر على كسر أعتى ترسانات الباطل.