الوقت- بعد أشهر من الغارات الجوية الثقيلة والمكلفة، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل عدة ايام توقف العمليات العسكرية الأمريكية ضد اليمن. وزعم ترامب، أن جماعة أنصار الله أعلنت أنها لن تقاتل الولايات المتحدة بعد الآن. وقال ترامب "نحن نحترم كلام الحوثيين". قالوا أنهم لن يفجروا أي سفن أخرى. "من هذه اللحظة ستتوقف الهجمات الأمريكية على اليمن". وفي الوقت نفسه، قال وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو: "إن هدف هجماتنا على اليمن هو تحرير ممرات الشحن". "في ضوء تصريحات الحوثيين لم نعد بحاجة لمواصلة عملياتنا ضدهم". وفي هذا الصدد، أعلنت وزارة الخارجية العمانية التي قامت بدور الوسيط بين واشنطن وصنعاء، أن المشاورات المستمرة التي أجرتها مسقط مع الطرفين المعنيين، أدت إلى تفاهم يقضي بامتناع كل طرف عن استهداف الطرف الآخر، بما في ذلك السفن والبواخر الأميركية.
رواية مختلفة من صنعاء
ورغم أن ترامب زعم أن وقف الحرب كان مقترحا في البداية من قبل أنصار الله لإظهار واشنطن وكأنها لا تزال قوية ومنتصرة، فإن الرواية التي رواها مسؤولو صنعاء حول هذا الأمر لا تتطابق مع ادعاء ترامب. ولقد نفى المتحدث باسم جماعة أنصار الله محمد البخيتي، وقف الهجمات على السفن في البحر الأحمر، وأعلن أن تصريحات ترامب غير دقيقة. ويبدو أن قادة صنعاء متشككون في النوايا الحسنة لترامب في وقف الهجمات على اليمن. وقال محمد طاهر أنعم مستشار المجلس السياسي الأعلى في اليمن: "إن الدافع الرئيسي لإعلان الولايات المتحدة وقف إطلاق النار هو الخوف الذي يشعر به ترامب بشأن زيارته المقبلة، ولهذا السبب اتصل الأمريكيون مؤخراً بالعمانيين وطلبوا منهم التحدث مع الوفد اليمني لوقف الحرب وتثبيت وقف إطلاق النار". لكن اليمنيين لن يترددوا في استهدافه وطائرته إذا اقتربت من مسار الصواريخ والطائرات المسيرة اليمنية في المنطقة.
كما اعتبر محمد علي الحوثي عضو المجلس السياسي الأعلى في اليمن تصريحات ترامب بشأن وقف الهجمات على البلاد انتصارا سيؤدي إلى وقف واشنطن دعمها لإسرائيل. وأكد الحوثي أن إعلان ترامب وقف الهجمات الأمريكية على اليمن سيتم تقييمه ميدانيا أولا. وبحسب تصريحات مسؤولين في صنعاء، يبدو أن تعليق العمليات جاء بأمر من ترامب من جانب واحد، وقد أرجأ اليمنيون اتخاذ أي قرار في هذا الشأن إلى حسن نية ترامب في الأيام المقبلة.
استعراض القوة من جانب أنصار الله دفع واشنطن إلى التراجع
إن وقف الهجمات على اليمن هو أكثر من مجرد خيار تكتيكي، بل هو تراجع قسري وهزيمة استراتيجية أمام قوة وإرادة القوات اليمنية. ورغم أن واشنطن بررت وقف الهجمات بالعمل الدبلوماسي، إلا أن هذا الانسحاب، بعد أسابيع من قصف مناطق مختلفة من اليمن والفشل في تحقيق الأهداف العسكرية المعلنة، يعد دليلا واضحا على قوة ومقاومة القوات اليمنية للعدوان الأجنبي. ولم تكتف الهجمات التي بدأت قبل 16 شهراً بإجبار صنعاء على وقف العمليات في البحر الأحمر، بل زادت من تكاليف واشنطن، والتي تصل، بحسب وسائل إعلام غربية، إلى نحو 5 مليارات دولار. ورغم محاولتهم تبرير العملية باعتبارها "إجراء رادعاً"، فشل مسؤولو البنتاغون في تحقيق أي نتائج ملموسة من الهجمات. لقد حالت أنظمة الدفاع اليمنية، التي تعتمد على التكنولوجيا المحلية وتكتيكات حرب العصابات، دون تحقيق التفوق الجوي الأمريكي.
كما نجحت الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية اليمنية مراراً وتكراراً في استهداف القواعد والسفن الأميركية في البحر الأحمر وخليج عدن. هجمات وجهت ضربات غير مسبوقة للهيمنة العسكرية الأميركية. ودفعت هذه الاستجابات الرادعة البيت الأبيض إلى إصدار أمر بوقف العمليات على الفور لمنع اندلاع صراع أوسع نطاقا. وكانت الولايات المتحدة التي دخلت الحملة على اليمن معتمدة على القوة الجوية والتكنولوجيا العسكرية المتقدمة، تأمل في كسر القدرات الدفاعية لقوات أنصار الله بهجمات محدودة، لكن ما حدث على الأرض لم يكن أقل من الفشل. ولم يكتف أنصار الله بمقاومة الهجمات، بل ألحقوا أضراراً جسيمة بالمصالح العسكرية والأمنية الأميركية في المنطقة من خلال عمليات دقيقة ومستهدفة. ولم تكن واشنطن تتوقع أن يكون اليمنيون قادرين على المقاومة إلى هذا الحد، كما أن اعتراف مسؤولي البيت الأبيض بأنهم قللوا من شأن قوة اليمنيين يشهد أيضاً على هذه الحقيقة.
ويأتي هذا التراجع رغم أن ترامب سبق وأن استخدم الخيار العسكري مراراً وتكراراً كأداة للضغط على دول المنطقة. لكن الآن يتم تفسير الهزيمة في اليمن باعتبارها واحدة من أخطر إخفاقات إدارة ترامب في مجال السياسة الخارجية والعسكرية. ويرى الخبير الأمريكي تشارلز والدورف أن قرار ترامب بوقف العمليات في اليمن جاء لتجنب الوقوع في فخ الهزيمة لأكبر قوة جوية في العالم. لأن فشل القوة الجوية الأميركية في اليمن، والتي لا تقارن عسكرياً بقوة واشنطن، من شأنه أن يشوه صورة أميركا وسمعتها في العالم. ولذلك توصل ترامب النفعي إلى نتيجة مفادها أن استمرار الحرب في اليمن لن يحقق أي مكاسب لواشنطن، وأنه من الأفضل وقف هذه الهجمات العبثية.
تعزيز مكانة اليمن في العالم
إن هذا التطور من شأنه أن يعزز مكانة اليمن كلاعب مؤثر في جبهة المقاومة وفي المنطقة، ويرسل رسالة واضحة للعالم بأن الأمة اليمنية، ورغم سنوات الحصار والحرب، وصلت إلى مستوى من القوة العسكرية والإرادة السياسية التي ستجبر حتى قوى مثل الولايات المتحدة على التراجع. إن القوة العسكرية لأنصار الله، التي توسعت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، لم تغير ميزان القوى في اليمن فحسب، بل أرسلت أيضا رسالة واضحة إلى واشنطن وحلفائها مفادها أن عصر الهجمات الأحادية الجانب دون رد قد انتهى.
السبب الرئيسي وراء هجوم أمريكا على اليمن هو إجبار أنصار الله على التوقف عن دعم الشعب الفلسطيني، لكن هذه الحرب جاءت بنتائج عكسية، واليمنيون الآن أكثر تصميماً من أي وقت مضى على الدفاع عن الفلسطينيين. وحذر قادة أنصار الله مراراً وتكراراً من أنه طالما استمرت جرائم الكيان الصهيوني في غزة فإنهم سيواصلون أيضاً عملياتهم ضد الأراضي المحتلة ومصالح الكيان في البحر الأحمر والمحيط الهندي. ولذلك فإن وقف الضربات الجوية الأميركية على اليمن ليس سبباً كافياً لكي يتوقف اليمنيون عن مهاجمة الأراضي المحتلة. وحذرت السلطات في صنعاء، الثلاثاء، من أنها سترد برد ساحق على الاعتداءات الإسرائيلية على اليمن وتوسع نطاق أهدافها في الأراضي المحتلة. وبما أن إسرائيل استهدفت البنية التحتية للطاقة والاقتصاد في اليمن، فربما تستهدف أنصار الله هذه المرة منشآت الطاقة الصهيونية بدلا من القواعد العسكرية، وهو ما قد يضع تل أبيب في وضع سيء للغاية.
وبشكل عام، فإن المقاومة المستمرة وردود الفعل الساحقة للقوات اليمنية شكلت تحدياً لبنية إسقاط القوة الأميركية وكشفت عن ضعف الاستراتيجيات العسكرية لواشنطن. إن هذا التراجع ليس مجرد فشل تكتيكي، بل هو مؤشر على تراجع هيمنة الولايات المتحدة في غرب آسيا وخارجها، حيث يمكن لقوى إقليمية مستقلة أخرى أن تقف في وجه أكبر جيش في العالم وتجبره على التراجع، وسيكون لهذه القضية تأثيرها حتى على التطورات السياسية والعسكرية في فلسطين.