الوقت - في الأشهر الأخيرة، اجتاحت الكيان الصهيوني عواصف سياسية واجتماعية هي الأعنف منذ نشأته غير الشرعية قبل ما يزيد على سبعين عاماً، وقد تمحورت هذه الأزمات العاصفة حول شخصية بنيامين نتنياهو، ذلك الزعيم الذي غدا رمزاً للسياسات المتقلبة، ومركزاً لكل التوترات والصراعات الداخلية التي تعصف بهذا الكيان.
وتتشكل الرؤى والتحليلات داخل الأوساط الإسرائيلية بشأن مستقبل نتنياهو السياسي تحت وطأة عوامل متشابكة، تتراوح بين قضاياه القانونية المثقلة بالاتهامات، وأدائه المتعثر في حرب غزة، وبين الانقسامات الاجتماعية التي أضحت تهدّد تماسك المجتمع الإسرائيلي.
الأزمة الداخلية وتقييم مستقبل نتنياهو السياسي
بنيامين نتنياهو، ذلك الرجل الذي کتب اسمه كواحد من أكثر القادة إثارةً للجدل في تاريخ الكيان الصهيوني، يقف اليوم على مفترق طرق محفوف بالمخاطر، بعد أن باتت قيادته الطويلة عرضةً لرياح النقد التي تعصف بها من كل حدب وصوب، هذه الانتقادات، التي تفاقمت على مدى السنوات الأخيرة، لم تقتصر على أبعاد سياسية سطحية، بل تغلغلت عميقاً في الجوانب القضائية والأمنية والاجتماعية، مخلّفةً وراءها شروخاً عميقةً في مكانته السياسية، وها هي التكهنات تتعاظم في الأوساط العامة والنخبوية داخل الكيان، معلنةً أن نهاية عصر نتنياهو باتت قاب قوسين أو أدنى.
أثقل ما يرزح تحت وطأته نتنياهو هو سجله القضائي المثقل بالاتهامات، التي باتت تطارده كظلالٍ داكنة لا تنفك عنه، فملفات الفساد المالي، والرشوة، واستغلال النفوذ، التي تدور رحاها في أروقة المحاكم الإسرائيلية منذ سنوات، لم تعد مجرد قضايا قانونية، بل تحولت إلى رموز صارخة للانحدار الأخلاقي الذي يعتري قيادته.
وفي عام 2022، طفت على السطح تقارير تفيد بوجود مفاوضات سرية بين فريقه القانوني والمدعي العام، تضمنت عرضاً للمصالحة مفاده: الإقرار بجزء من الاتهامات مقابل الإعفاء من السجن، مع اشتراط حرمانه من العمل السياسي لمدة سبع سنوات، ورغم رفض نتنياهو لهذا العرض الذي كان يحمل في طياته نهايةً شبه حتمية لمسيرته السياسية، إلا أن مجرد طرح مثل هذا الاتفاق أظهر مدى هشاشة موقفه أمام الضغوط القضائية التي تحاصره من كل جانب.
أما خصومه السياسيون، ولا سيما من جناحي الوسط واليسار، فقد اتخذوا من هذه القضايا القضائية ذريعةً لتأكيد عدم أهليته للقيادة، متوقعين أن الإدانة المحتملة ستكتب الفصل الأخير في رواية زعامته.
احتجاجات شعبية تهز العرش
إلى جانب المأزق القضائي، برزت الاحتجاجات الشعبية كعامل آخر يزيد من متاعب نتنياهو، ويهدّد بتقويض أسس حكمه، فمنذ عام 2023، اندلعت مظاهرات شعبية واسعة النطاق ضد الإصلاحات القضائية التي اقترحتها حكومته، والتي رأى فيها منتقدوه محاولةً لتقويض استقلال القضاء الإسرائيلي، وللمرة الأولى منذ سنوات، خرجت جموع غفيرة من المتظاهرين إلى شوارع تل أبيب ومدن أخرى، في مشهدٍ يعكس غضباً شعبياً غير مسبوق، ولم تقتصر هذه الاحتجاجات على التظاهر، بل امتدت إلى إضرابات عامة شملت قطاعات حيوية في الدولة، ما جعل الضغط الشعبي يتخذ أبعاداً أكثر خطورةً.
قادة النقابات العمالية والنشطاء المدنيون، الذين قادوا هذه الموجة من الغضب، لم يكتفوا بالمطالبة بإلغاء الإصلاحات القضائية، بل ذهبوا إلى حد الدعوة إلى انتخابات مبكرة، مؤكدين أن حكومة نتنياهو فقدت الشرعية التي تخوّلها الاستمرار.
وفي خضم هذا الحراك العارم، علت الهتافات التي تندّد بـ"الفساد" و"الاستبداد"، كاشفةً عن انقسامات عميقة في المجتمع الإسرائيلي، بين مناصرٍ وناقمٍ على القيادة الحالية، وفيما تتوالى التقارير الصحفية، تتسابق وسائل الإعلام الإسرائيلية، وعلى رأسها صحيفة “هآرتس”، إلى تسليط الضوء على هشاشة موقف نتنياهو، محذرةً من أن استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى انهياره السياسي الكامل.
لكن أزمات نتنياهو لم تتوقف عند حدود الملفات القضائية وصراعات الداخل التي أجّجتها محاولاته لإقرار الإصلاحات القضائية المثيرة للجدل، بل امتدت لتصل إلى واحدة من أخطر الإخفاقات الأمنية في تاريخ الكيان الصهيوني، ذلك أن الهجوم المباغت الذي شنته حركة حماس في السابع من أكتوبر عام 2023 شكّل ضربةً موجعةً للكيان، إذ أسفر عن مقتل أكثر من 1400 شخص وأسر عشرات آخرين، ليُسجل في صفحات التاريخ كواحدة من أكبر الهزائم الاستخباراتية والعسكرية التي لحقت بـ "إسرائيل".
هذا الحدث لم يكن مجرد إخفاق أمني عابر، بل تحوّل إلى نقطة فاصلة في مسيرة نتنياهو السياسية، حيث اعتبره الكثير من الإسرائيليين نتيجةً مباشرةً لإهماله في ترتيب أولويات الأمن القومي، وانشغاله بقضايا الإصلاحات القضائية التي يقول منتقدوه إنها أضعفت مؤسسات الدولة وشغلت الحكومة عن التهديدات الخارجية.
إن موجة الغضب الشعبي التي أعقبت هذه الواقعة لم تقتصر على مظاهرات الشوارع، بل امتدت إلى تصريحات لاذعة أطلقها المواطنون عبر وسائل الإعلام، فقد وصف بعض المحتجين نتنياهو بأنه قائد “فاشل”، مطالبين بتنحيه الفوري عن منصبه، فيما اعتبر آخرون أن استمرار بقائه على رأس السلطة، يشكّل تهديداً لمستقبل الكيان برمته.
وسط هذا الغضب العارم، تبرز تحليلات سياسية تتنبأ بمصير محتوم ينتظر نتنياهو، حيث يرى المراقبون أن تراكم الأزمات – بدءاً من الضغوط القضائية، مروراً بالهزائم الأمنية، وصولاً إلى السخط الشعبي المتصاعد – سيقوده إلى نهاية محتومة، وعلى الرغم من محاولاته المستميتة للاستناد إلى تحالفه مع اليمين المتطرف والتلاعب ببراعة تكتيكية للبقاء في السلطة، فإن تصاعد التحديات، مقترناً بتقدمه في العمر (75 عاماً في عام 2025) وشائعات تتعلق بصحته، يجعل الطريق ممهداً لظهور قيادة جديدة داخل حزب الليكود، وربما لإعادة تشكيل المشهد السياسي الإسرائيلي بالكامل.
خلافات مع ترامب: مأزق آخر يعصف بمستقبل نتنياهو السياسي
وفي خضم هذه الأزمات المتشابكة، تطفو على السطح خلافات عميقة بين نتنياهو والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلافات لم تكن وليدة اللحظة، بل تمتد جذورها إلى سنوات مضت، وإن كانت قد تجددت مؤخراً لتضيف إلى أعباء نتنياهو المتزايدة.
ظهرت أولى بوادر التوتر بين الرجلين عقب خسارة ترامب في انتخابات عام 2020، حين كشف الأخير في أحد خطاباته أن نتنياهو تراجع عن دعمه له خلال عملية اغتيال اللواء قاسم سليماني، إذ أعلن نتنياهو في اللحظات الأخيرة رفض المشاركة في العملية، ما أثار غضب ترامب وأحدث شرخاً في علاقتهما.
وفي عام 2023، وقبل أن يستعيد ترامب السلطة إثر فوزه في انتخابات 2024، كشفت مصادر مقربة منه أنه وصف نتنياهو في أحاديث خاصة بأنه “ضعيف”، معتبراً أن عجز "إسرائيل" عن التنبؤ بهجوم حماس، دليل على إخفاق نتنياهو في القيادة، ولم يقف ترامب عند هذا الحد، بل أطلق تصريحات علنية أشار فيها إلى أن “هناك شخصيات كفؤة ومتميزة في إسرائيل، يمكنها أن تتولى رئاسة الوزراء بدلاً من نتنياهو”.
هذه النظرة التي تصوّر نتنياهو قائداً “عاجزاً” غير قادر على قيادة الكيان، أو تشير إلى وجود شخصيات أخرى أكثر جدارةً منه لتولي زمام الأمور، تكررت مراراً في تصريحات ترامب العلنية والخاصة خلال عام 2023، كأنها تعكس مسعى واضحاً من الرئيس الأمريكي للنأي بنفسه عن نتنياهو وسط العواصف السياسية التي تعصف بالكيان الصهيوني.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن أن يتراجع ترامب عن تلك المواقف الحادة تجاه نتنياهو بعد عودته إلى سدة الحكم، ناسياً ما كان قد أطلقه من تصريحات؟ وفقاً للتحليلات الراهنة، فإن الخلافات بين الرجلين، التي تفاقمت بشكل ملحوظ عقب فوز بايدن في انتخابات عام 2020، لم تزل قائمةً، بل ربما ازدادت عمقاً في المرحلة الحالية.
حرب غزة وإيران: نقاط التوتر الحادة بين ترامب ونتنياهو
في هذه اللحظة الحرجة، تتصدر حرب غزة وملف إيران قائمة القضايا التي تؤجّج الخلاف بين الرئيس الأمريكي ورئيس وزراء الكيان الصهيوني، وقد حذّر خبراء ومحللون إسرائيليون، أثناء حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024، من احتمالات أن تتصادم المصالح بين واشنطن وتل أبيب تحت إدارة ترامب، وخاصةً فيما يتعلق بهذين الملفين الحساسين.
أما فيما يخصّ حرب غزة، فقد أشار المحللون الصهاينة إلى أن عودة ترامب إلى السلطة قد تعني تصاعد الضغوط الأمريكية على "إسرائيل" لإجبارها على قبول اتفاق لوقف إطلاق النار، ذلك أن عقيدة ترامب الاستراتيجية تنفر من استمرار التوترات والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، حيث يسعى إلى خفض مستويات التوتر إلى أدنى حد ممكن تحقيقاً لاستقرار يخدم مصالحه الكبرى.
في أعين الصهاينة، الأولوية القصوى لترامب تكمن في مواجهة الصين، وهي مهمة تستنزف جهوده ووقته، وتمنعه من التفرغ لأزمات الشرق الأوسط، ولهذا السبب، على عكس رغبة نتنياهو الذي يدفع باتجاه استمرار الحرب إلى أجل غير معلوم، فإن ترامب يبدو متعجلاً لإغلاق ملف غزة، وهو ما دفعه إلى توجيه تهديدات مبطنة للكيان الصهيوني خلال الأيام الأولى من ولايته، محذّراً من مغبة المماطلة في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
في هذا السياق، ذكرت شبكة 14 الإسرائيلية أن مبعوث ترامب نقل إلى نتنياهو رسالةً شديدة اللهجة من الرئيس الأمريكي تحثّه على الإسراع في الوصول إلى اتفاق، في خطوة تعكس إصرار ترامب على إنهاء الصراع مهما كلف الأمر.
ملف إيران: ذروة الخلافات بين تل أبيب وواشنطن
أما النقطة الأكثر حساسيةً في العلاقة المضطربة بين ترامب ونتنياهو، فهي نهج التعامل مع إيران، وخاصةً فيما يتعلق ببرنامجها النووي، هذه القضية، التي أصبحت محوراً رئيسياً للتوتر بين الرجلين، تتجذر في اختلاف الرؤى الاستراتيجية والأولويات السياسية بينهما.
من منظور نتنياهو، فإن الدبلوماسية تجاه إيران ليست إلا خطأ جسيم يفتح الباب أمام تعزيز قوتها، ما يضاعف تهديدها المستقبلي للكيان الصهيوني، ولذلك، لطالما دفع نتنياهو باتجاه تدخل عسكري حاسم تقوده الولايات المتحدة، معتقداً أن هذا هو السبيل الوحيد لتقويض نفوذ إيران ودرء خطرها المتنامي.
في تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز، زُعم أن "إسرائيل" كانت قد وضعت خطةً في أوائل عام 2025 لشنّ ضربات جوية على المنشآت النووية الإيرانية في شهر مايو، معتمدةً بشكل كبير على الدعم اللوجستي والعسكري الأمريكي، بما في ذلك التزود بالوقود جواً والدفاع ضد أي رد إيراني محتمل، ورغم أن نتنياهو كان يأمل أن تؤخر هذه الضربات قدرة إيران النووية لمدة عام على الأقل، إلا أن هذه الخطة واجهت رفضاً قاطعاً من ترامب، الذي عارض بشدة أي عمل عسكري ضد إيران، مفضّلاً نهج الدبلوماسية، وهو ما شكّل محوراً أساسياً للخلاف بينهما.
يتجلى الخلاف بين ترامب ونتنياهو في رؤيتهما المتناقضة بشأن كيفية التعامل مع إيران، فبينما يصر نتنياهو منذ سنوات على ضرورة شن هجمات عسكرية استباقية ضد المنشآت النووية الإيرانية، ويؤكد في لقاءاته المتكررة، بما في ذلك في فبراير وأبريل 2025، على أهمية التدخل العسكري، فإن ترامب يرفض الانجرار إلى مواجهة عسكرية، مفضلاً الحلول الدبلوماسية التي يتصور أنها أقل تكلفةً وأكثر فعاليةً.
على النقيض من المسار الذي اختطه نتنياهو، اتخذ ترامب درباً مغايراً تماماً، وهو ما تجلى بوضوح خلال اللقاء الذي جمعهما في فبراير، ففي ذلك الاجتماع، ألمح ترامب، بصورة عابرة، إلى التباين العميق بين رؤيته ورؤية رئيس وزراء الكيان الصهيوني، غير أن هذا الاختلاف برز بصورة أشدّ وضوحاً في اجتماع أبريل، الذي وصفه المحللون الصهاينة بأنه لا يقل إثارةً عن اللقاء الذي جمع ترامب بزيلينسكي.
ففي تلك المناسبة، باغت ترامب نتنياهو بإعلان مفاجئ عن بدء المفاوضات المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، ليضع الكيان الصهيوني في حالة من الذهول والارتباك العميق، إذ لم يكن هذا الخيار، القائم على التفاوض، وارداً في حسابات الصهاينة، الذين كانوا يتوقعون من ترامب انتهاج سياسة الضغط الأقصى أو حتى اللجوء إلى الخيار العسكري لمواجهة إيران.
لكن الخلاف لم يقف عند هذا الحد، إذ وجد الصهاينة أنفسهم مضطرين إلى التماهي مع رغبات ترامب، فاقترحوا نموذج ليبيا ليكون أساساً للمفاوضات مع إيران، باعتباره الخيار الأمثل لتفكيك البرنامج النووي الإيراني بصورة شاملة، إلا أن مجريات الأمور سرعان ما أظهرت أن هذا المقترح، لم يلقَ صدى يُذكر لدى الإدارة الأمريكية، فقد كشفت التصريحات المتبادلة بين ممثلي الطرفين خلال المفاوضات عن تجاهل واضح لهذا النموذج، وعن رؤية أمريكية لا ترى بالضرورة توافقاً بين مصالحها ومصالح الكيان الصهيوني في هذا الملف.
وفي الأسابيع الأخيرة، شهدت الأراضي المحتلة موجةً عارمةً من الانتقادات الموجهة للسياسة الأمريكية في التعامل مع إيران، امتزجت بالسخرية المريرة من نتنياهو، الذي بدا وكأن رهاناته جميعها قد انهارت، وأن كل تصوراته قد انقلبت رأساً على عقب.
خيبة أمل الصهاينة من دونالد ترامب
الخلاف بين ترامب ونتنياهو بشأن ملف إيران، الذي تحوّل إلى محور رئيسي للتوتر بينهما، يتأصل في اختلافات جوهرية تتعلق بالأولويات الاستراتيجية والرؤى السياسية لكل منهما، فنتنياهو، الذي لطالما دعا إلى تدخل عسكري حاسم يستهدف المنشآت النووية الإيرانية، وروّج لنموذج ليبيا كحل جذري لتفكيك البرنامج النووي الإيراني، يسعى إلى تأمين الكيان الصهيوني عبر دعم أمريكي صلب، في المقابل، يتبنى ترامب رؤيةً مخالفةً تماماً، يفضّل فيها نهج الدبلوماسية والمفاوضات، ويسعى إلى صياغة اتفاق محدود النطاق يجنّب الولايات المتحدة مغبة التصعيد العسكري.
وقد بلغت هذه الفجوة بين الرؤى ذروتها مع إعلان مفاوضات عمان في أبريل 2025، التي جاءت صادمةً للصهاينة، وغيرت تصورهم تجاه ترامب بصورة جذرية، وفي الوقت ذاته، زادت هذه التطورات من هشاشة موقف نتنياهو، الذي بات يعاني من تصاعد الانتقادات الداخلية والدولية، ما أضعف مكانته السياسية ووضع مستقبله على المحك، وإذا ما استمر هذا التوتر بين الرجلين، فإن انعكاساته قد تتجاوز حدود العلاقات الثنائية، لتلقي بظلالها على مستقبل القيادة في الكيان الصهيوني بأسره.