الوقت- في ظل المجازر المتواصلة والجرائم الممنهجة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق أكثر من 2.2 مليون إنسان محاصر في قطاع غزة، أصدرت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بياناً شديد اللهجة أكدت فيه أن التقرير الأخير الصادر عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) يمثل "توثيقاً رسمياً لجرائم الاحتلال"، ويكشف وحشيته أمام العالم بصورة لا يمكن إنكارها.
وجاء في البيان أن إفادات المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، حول استخدام الجيش الإسرائيلي موظفي الوكالة كدروع بشرية، وتعذيبهم خلال الاعتقال، وتعرضهم للضرب والإهانات والإجبار على الاعترافات القسرية، تمثل إدانة دامغة للاحتلال، وشاهداً لا يمكن الطعن فيه على الطابع الإجرامي الممنهج للسياسات الإسرائيلية.
كما أكدت حماس أن هذه الشهادات العلنية من مسؤول رفيع في الأمم المتحدة، تُعد وثيقة دولية تؤكد أن "إسرائيل" تجاوزت كل الحدود، وانتهكت بشكل صريح اتفاقيات جنيف، وتجرأت على استهداف حتى المؤسسات الأممية التي يُفترض أنها محمية بالقانون الدولي.
من هي الأونروا؟ ولماذا يستهدفها الاحتلال؟
تأسست الأونروا عام 1949 بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، بهدف تقديم الخدمات الأساسية من تعليم، وصحة، وإغاثة، وتنمية للاجئين الفلسطينيين في خمس مناطق رئيسية: قطاع غزة، الضفة الغربية، لبنان، سوريا، والأردن.
تخدم الوكالة أكثر من 5.9 ملايين لاجئ فلسطيني، وتُعد شريان الحياة الوحيد لمئات الآلاف، وخاصة في قطاع غزة المحاصر، حيث تقدم خدماتها لأكثر من 1.6 مليون شخص، وتشغل آلاف الموظفين، معظمهم من اللاجئين الفلسطينيين أنفسهم.
لكن بسبب موقفها الإنساني وانتقاداتها المتكررة للانتهاكات الإسرائيلية، تتعرض الأونروا لحملات تحريض ممنهجة من الاحتلال منذ سنوات، ويرى كثير من المراقبين أن "إسرائيل" تسعى إلى إنهاء عمل الأونروا كخطوة نحو تصفية قضية اللاجئين، وإلغاء حق العودة، أحد الثوابت الفلسطينية.
تعليق "إسرائيل" لأنشطة الأونروا: تصفية سياسية؟
في يناير 2024، أعلنت حكومة الاحتلال تعليق عمل الأونروا في القدس الشرقية، ثم وسعت القرار ليشمل مناطق أخرى، بذريعة "تورط بعض موظفي الوكالة في أحداث الـ 7 من أكتوبر"، وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة بدأت تحقيقًا داخليًا، إلا أن "إسرائيل" لم تنتظر النتائج، وشرعت في حملة إعلامية ودبلوماسية تطالب بإغلاق الوكالة بالكامل.
هذا الموقف لا يمكن عزله عن المساعي الإسرائيلية القديمة لتجفيف مصادر تمويل الأونروا، وحرمان اللاجئين من مؤسساتهم الدولية، واستبدال خدماتها بمنظمات محلية خاضعة للرقابة الإسرائيلية، في خطوة تمهيدية لنسف حق العودة من جذوره.
الولايات المتحدة: تجويع اللاجئين بغطاء سياسي
كرد فعل على الادعاءات الإسرائيلية، سارعت الولايات المتحدة إلى تجميد مساهماتها المالية للأونروا، والتي كانت تشكل أكبر مصدر تمويل للوكالة (أكثر من 300 مليون دولار سنوياً)، وانضمت لاحقاً دول مثل بريطانيا، كندا، ألمانيا، إيطاليا، أستراليا، وهولندا، إلى هذا القرار الكارثي، الذي تسبب في توقف عشرات البرامج الإنسانية.
وتزامن ذلك مع حملة ضغط أمريكية لوقف أي تحقيق دولي في الجرائم الإسرائيلية في غزة، وإفشال الجهود في محكمة العدل الدولية، ما يعكس تواطؤًا واضحًا في خنق سكان القطاع، وتحويل الدعم الإنساني إلى أداة للابتزاز السياسي.
التجويع كسلاح حرب: جريمة موثقة دولياً
منظمات حقوقية كبرى، منها "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية"، وثّقت استخدام "إسرائيل" للجوع كسلاح في عدوانها على غزة، وأكدت أن الاحتلال يمنع دخول الأغذية والمياه والأدوية بشكل متعمد، ويقصف مخازن الغذاء والمخابز، ويغلق المعابر، ويرفض التنسيق مع الوكالات الإنسانية.
وأشارت تقارير هذه المنظمات إلى أن استخدام "التجويع كسلاح" يُعد جريمة حرب بموجب القانون الدولي الإنساني، ويُحمّل المسؤولية الجنائية للقادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين.
مشاهد مروعة: موت بطيء تحت الحصار
شهادات من داخل قطاع غزة أكدت أن الأطفال يموتون جوعاً، ونساء حوامل يضعن مواليدهن في العراء بلا طعام ولا دواء، ومستشفيات باتت بلا كهرباء ولا معدات، فيما الجثث تملأ الشوارع، الوضع في شمال غزة على وجه الخصوص يُوصف بأنه "جحيم مفتوح"، حيث لا يصل إليه أي نوع من المساعدات منذ أكثر من شهرين.
تقول إحدى العاملات في المجال الإنساني: "ما يحدث في غزة لا يشبه أي أزمة إنسانية سابقة، نحن أمام سياسة تطهير جماعي بطيء تُمارس بدم بارد".
محكمة لاهاي: مسؤولية مضاعفة أمام المجاعة الجماعية
مع استمرار جلسات الاستماع في محكمة العدل الدولية حول الالتزامات القانونية لـ"إسرائيل" كقوة احتلال، يمثل التجويع الجماعي للمدنيين أداة ضغط قانونية وأخلاقية جديدة على المجتمع الدولي.
وقد قدمت عدة دول ومؤسسات أدلة موثقة عن استخدام "إسرائيل" لسياسة التجويع، إضافة إلى استهدافها المباشر للأونروا، باعتبار ذلك مؤشراً على تعمد طمس أي آلية رقابة أو إغاثة.
حماس تدعو للتحرك الدولي وكسر الصمت
في ختام بيانها، دعت حماس كل الدول، وخاصة العربية والإسلامية، إلى كسر الصمت ووقف الجريمة المتمثلة بفرض الجوع على أكثر من مليونَي إنسان، وأشارت إلى أن استمرار منع الغذاء والدواء هو اختبار حقيقي لضمير العالم.
كما طالبت مجلس الأمن، والأمين العام للأمم المتحدة، والمنظمات الحقوقية الدولية، بالتدخل العاجل لإلزام "إسرائيل" باحترام القانون الإنساني، ورفع الحصار، وضمان حرية عمل الأونروا وكل المنظمات الدولية في غزة.
التقرير الأخير للأونروا، الذي كشف عن تعذيب موظفيها، وقتل الأطفال جوعاً، ومنع دخول المياه واللقاحات، ليس مجرد "بيان"، بل هو وثيقة رسمية أممية تُحمّل الاحتلال المسؤولية القانونية عن واحدة من أبشع الجرائم في العصر الحديث.
وإذا لم يتحرك العالم، فسيُسجَّل في التاريخ أن المجاعة الجماعية في غزة وقعت على مرأى ومسمع من الجميع، ولم يحرّك أحد ساكنًا.