الوقت - يشهد البرلمان العراقي في صيف 2025 مخاضاً عسيراً لاتخاذ قرار من أخطر قراراته الأمنية والسياسية وأكثرها حساسيةً: دراسة وإقرار مشروع قانون جديد لهيئة الحشد الشعبي، تلك المؤسسة التي نالت الاعتراف الرسمي منذ عام 2016 كركن أساسي من أركان القوات المسلحة العراقية، وها هي اليوم تخطو خطوات واثقة نحو ترسيخ كيانها وهويتها المستقلة عبر إصلاحات جوهرية تعيد تشكيل ملامحها.
استكمل مجلس النواب يوم الأربعاء المنصرم تقريره ومناقشته لمشروع قانون قوات الحشد الشعبي، وجاء في بيان مقتضب صدر عن الدائرة الإعلامية للمجلس: “استكمل مجلس النواب تقريره ومناقشته لمشروع قانون قوات الحشد الشعبي”، وكان المجلس قد أقرّ إضافة عدة بنود إلى جدول أعمال جلسة يوم الأربعاء.
أكدت مصادر برلمانية أن قانون إعادة هيكلة قوات الحشد الشعبي، يمضي قدماً في مساره التشريعي نحو الإقرار في البرلمان العراقي بعد اختتام القراءتين الأولى والثانية، وذلك في ظل اعتراضات من بعض الكتل الكردية والسنية على مضمونه، فيما وصفت الأحزاب المؤيدة للقانون هذه المعارضة بأنها “تفتقر إلى المبررات الموضوعية”.
بنود جوهرية في المشروع الجديد: نقلة نوعية تتخطى حدود رسمية 2016
في حال إقراره، سيحلّ هذا القانون محلّ قانون الحشد الشعبي الساري منذ عام 2016، والذي كان يهدف إلى إضفاء الشرعية وسدّ الثغرات السياسية والقانونية التي طالما استُغلت للضغط من أجل تفكيك الحشد وإنهاء وجوده.
يتضمن القانون الجديد إصلاحات عميقة وجذرية. أحد الأسباب الرئيسية التي حدت بالكتل السياسية الداعمة للحشد الشعبي إلى السعي وراء قانون جديد، هو أن القانون السابق من عام 2016 كان قانوناً مختزلاً أُقر على عجل واقتصر على ثلاث مواد فحسب وافتقر إلى التفاصيل الوافية، فعلى سبيل المثال، لم يشمل القانون السابق تفاصيل كافية حول شروط انتساب القوات أو هيكلها الإداري، ولمعالجة هذه الفجوة التشريعية، شُرع في العمل على إصدار “قانون الخدمة والتقاعد”.
من جانب آخر، شهد الحشد الشعبي توسعاً ملحوظاً منذ تأسيسه، مما جعل إعادة النظر في المنظومة التشريعية المنظمة له أمراً لا محيد عنه، ووفقاً لوسائل الإعلام العراقية، ارتفع تعداد منتسبيه من 122,000 إلى 238,000، وتجاوزت الموازنة المخصصة لقوات الحشد الشعبي في عام 2024 مبلغ 3.4 مليارات دولار.
أبرز محاور هذه الإصلاحات:
ترتبط هيئة الحشد الشعبي بالقائد العام للقوات المسلحة ارتباطاً مباشراً، وليس لها صلة إدارية بوزارتي الدفاع والداخلية، ويتمتع رئيس هيئة الحشد الشعبي بدرجة وزير، وتُعد هذه خطوةً استباقيةً في مواجهة المطالبات المتزايدة لصهر قوات الحشد في بوتقة وزارتي الدفاع والداخلية، التي تسعى إلى تذويب الحشد من خلال دفع خطة الدمج قدماً.
تأسيس “أكاديمية الحشد الشعبي” لرفد صفوفه بضباط ذوي تأهيل رفيع المستوى، يستند هذا البند حتماً على المهام والوظائف المهنية والفريدة المنوطة بالحشد في المنظومة العسكرية والأمنية للقوات المسلحة العراقية، حيث تحتاج هذه القوة، نظراً لخبراتها الممتدة في مجابهة التهديدات غير المتماثلة والإرهاب، إلى تدريب متخصص يرتكز على مجالات مهامها الأساسية.
ستحظى هيئة الحشد الشعبي بموازنة مستقلة تُستقى من الموازنة العامة الاتحادية وإيرادات الهيئة والتبرعات المالية ومصادر أخرى.
يخضع منتسبو قوات الحشد الشعبي لأحكام قوانين العسكريين والموظفين المدنيين ريثما يتم إقرار قانون الخدمة والتقاعد الخاص بقوات الحشد (بسبب إلغاء التصويت على قانون خدمة وتقاعد قوات الحشد في البرلمان تحت وطأة الضغط الأمريكي).
يُعفى منتسبو قوات الحشد الشعبي قبل صدور هذا القانون من الشروط العمرية والشهادات المنصوص عليها في قانون الخدمة العسكرية والتقاعد (بحيث لا يُستغنى عنهم بسبب تجاوز السن القانوني أو عدم حيازة مؤهل دراسي).
أُدرج هذا البند في المشروع لأن القانون الجديد يتضمن بنداً للتقاعد الإلزامي بسبب السن، والذي إذا طُبق، سيُجبر العديد من قادة وأعضاء الحشد على الانكفاء، فلولا هذا الإعفاء، لربما اضطر فالح الفياض (68 عاماً)، رئيس هيئة الحشد الشعبي، مع 180 آخرين من كبار قادة الحشد إلى التقاعد، ما سيواجه القدرة العسكرية والأمنية العراقية بفراغ هائل من القادة والاستراتيجيين العسكريين.
معارضة أمريكية وشبح ضغوط أشدّ قسوةً
كما كان متوقعاً، أثارت مساعي البرلمان العراقي لترسيخ مكانة الحشد الشعبي في المنظومة الدفاعية والعسكرية العراقية - بسبب تعارضها مع الاستراتيجيات الأمريكية الكبرى في هذا البلد والمنطقة، المصممة على أساس مواجهة محور المقاومة والحفاظ على مصالح الكيان الصهيوني - سخط قادة البيت الأبيض فوراً، وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية معارضتها الشديدة لهذا القانون، واصفةً إياه بأنه يتنافى مع “العلاقات الاستراتيجية” بين واشنطن وبغداد.
وفقاً لمنصة “الجبال” الإخبارية، أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية يوم الاثنين الـ 21 من يوليو 2025 أن بلاده “تعارض بشدة أي قانون يتعارض مع أهداف المساعدات الأمنية الثنائية وشراكتنا، ويفضي إلى تقويض المؤسسات الأمنية العراقية القائمة والسيادة الفعلية لهذا البلد”.
وأضاف: “هذا المشروع القانوني يسبغ الشرعية على مجموعات مسلحة مرتبطة بمؤسسات وقادة إرهابيين، بما في ذلك أولئك الذين هاجموا المصالح الأمريكية وأزهقوا أرواح مواطنين أمريكيين”، مشدداً على أن “هذا الإجراء ليس مجدياً بأي حال من الأحوال”.
ولم يكتفِ البيت الأبيض بإعلان معارضته، بل هدّد الحكومة العراقية بإجراءات عقابية محتملة.
وكان محمود المشهداني، رئيس مجلس النواب العراقي، قد كشف سابقاً عن “تهديدات أمريكية” ضد بلاده، والتي وفقاً له “حالت دون طرح قانون الحشد الشعبي في المجلس”، وحذّر من أن العراق يقف على شفا أزمة أمنية.
وقال المشهداني في مقابلة تلفزيونية غطتها “الجبال”: “ثمة من يسعى لإقصاء الفياض (الرئيس الحالي للحشد) من رئاسة هذه المؤسسة بموجب قانون تقاعد الحشد، في حين أننا على أعتاب أزمة أمنية ولا ينبغي العبث بترتيبات الأجهزة الأمنية”.
وأشار إلى أن “أمريكا بعثت برسائل إلى جميع القادة السياسيين بشأن الحشد الشعبي، وأن تهديدات واشنطن حالت دون طرح هذا القانون في المجلس”، مضيفاً: “أمريكا تروم دمج الحشد في القوات الأمنية، وليس هيكلته بشكل مستقل”.
وأشار رئيس البرلمان العراقي إلى التحذيرات بشأن استهداف قادة هذه المؤسسة، وكشف النقاب عن دور الكيان الصهيوني قائلاً: “الكيان الصهيوني يرى أن العراق يشكّل تهديداً لمسار التطبيع”.
يبدو أن إحدى الطرق الرئيسية للضغط الأمريكي، تكمن في النفوذ المالي والدولار، سبق لأمريكا أن حاولت الضغط على الحكومة من خلال حظر صرف رواتب قوات الحشد عبر شركات الدفع الإلكتروني، لذلك، قد تتصاعد الضغوط على الحكومة العراقية للحدّ من موازنة الحشد، والاقتصاد العراقي، المرتهن بشدة لعائدات النفط التي تُدار عبر البنك الفيدرالي الأمريكي، عرضة لمثل هذه الضغوط.
رغم هذه التهديدات، أعلن الإطار التنسيقي، الذي يضمّ تحالف القوى السياسية المهيمنة على البرلمان، يوم الثلاثاء الفائت عن قراره بالمضي قدماً في القوانين المتعلقة بالحشد الشعبي، مؤكداً أنه لن يرضخ للضغوط الأمريكية.
وفي هذا الصدد، صرح عامر الفايز، أحد أقطاب هذا التحالف، في حديث مع موقع “الجبال” الإخباري: “ثمة توافق على اعتبار قانون الحشد الشعبي شأناً داخلياً وعدم السماح للقوى الأجنبية بالتدخل لعرقلته”.
وأضاف: “بطبيعة الحال لا تزال هناك معارضة داخلية، ونتطلع إلى تبلور حوار بين القوى السياسية حول هذه المسألة”.
ردود الفعل الداخلية: من تأييد الشيعة إلى تردد الأكراد وأهل السنة
منذ ظهور نية وتخطيط قوى الإطار التنسيقي لمراجعة قانون الحشد الشعبي، تجلى بوضوح أن المعارضين سيضعون العراقيل في هذا المسار، وقد بلغت المعارضة حداً أفضى إلى انسحاب نواب الكتل المعارضة وفقدان النصاب في جلسات البرلمان، ما حال دون طرح المشروع في البرلمان.
المعارضون، الذين لا يقفون على أرضية موحدة، ساقوا أسباباً متباينةً لإعلان معارضتهم، من بين هذه الأسباب أن القانون الجديد قد يفضي إلى تعاظم نفوذ الفصائل داخل قوات الحشد الشعبي، وتأثيرها على صناعة القرار السياسي للحكومة العراقية، أو أنه نظراً لأن قوات الحشد الشعبي تتشكل أساساً من فصائل شيعية مسلحة، فإن هذا القانون قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات الطائفية ويؤجج التوترات بين مختلف مكونات النسيج العراقي.
بالإضافة إلى ذلك، يزعم البعض، تماشياً مع العراقيل الأمريكية، أن القانون الجديد قد يثير هواجس بين بعض دول المنطقة، مثل الدول الخليجية، وقد يلقي بظلاله على العلاقات مع الولايات المتحدة.
تعتقد الولايات المتحدة أيضاً أن هذه الإصلاحات ستعزز الفصائل الموالية لإيران، وهي قضية شائكة للعلاقات بين بغداد وواشنطن.
في مواجهة هذه الانتقادات، شجب الإطار التنسيقي “التدخل الأمريكي” في مسار إقرار قانون الحشد، معتبراً إياه تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية العراقية، واصفاً انتقادات معارضي المشروع بأنها واهية وتتجاهل المصالح الأمنية والسياسية للعراق، وخاصةً في خضم الاضطرابات الإقليمية الراهنة.
وفي هذا السياق، صرح مختار الموسوي، عضو البرلمان عن هذا التحالف: “نحن عازمون على إقرار هذا القانون في الجلسات المقبلة للمجلس”، وأضاف: “الحشد الشعبي مؤسسة رسمية ويتعين أن يكون لها قانون وهيكل محدد شأنها شأن المؤسسات الأمنية والعسكرية العراقية الأخرى، نرفض أي تدخل أمريكي أو غيره في هذا الشأن، تصريحات وزارة الخارجية الأمريكية مرفوضة وتنتهك سيادة العراق”.
سيناريو تحويل الحشد إلى قوة الحرس الوطني
في حين أبدت قوى الإطار التنسيقي عزماً لا يلين للمضي قدماً في مشروع قانون الحشد الشعبي الجديد، فإن أحد السيناريوهات التي تتردد أصداؤها بكثافة في وسائل الإعلام العراقية مؤخراً كخيار بديل تطرحه أمريكا والمعارضون، هو محاولة تحويل الحشد الشعبي إلى مؤسسة رديفة لوزارتي الدفاع والداخلية تحت مسمى “الحرس الوطني”.
وفقاً للخبراء، فإن هذا النموذج السائد في الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، لا يزال يرنو إلى دمج الحشد الشعبي وطمس هويته تحت مسمى وآلية جديدة، وبناءً على ذلك، يمكن لقوة الحرس الوطني أن تمتلك قدرات تسليحية تفوق ما لدى وزارة الداخلية (الشرطة) وتقل عما تحوزه وزارة الدفاع (الجيش)، يمكن لهذه القوة مؤازرة وزارة الداخلية في الأزمات الأمنية الداخلية ووزارة الدفاع في مواجهة التهديدات الخارجية، وستخضع لقوانين وأنظمة عسكرية مماثلة للجيش والشرطة، ومع ذلك، يبدو من المستبعد أن تؤيد قوى الإطار التنسيقي خطة تحويل الحشد الشعبي إلى قوات الحرس الوطني، لأنها تستلزم تغييرات جذرية في المسودة الأولية المقدمة إلى البرلمان.
فرص إقرار قانون الحشد الجديد
تمثّل التحديات الناجمة عن الانقسامات السياسية داخل العراق، أحد أهم العوامل المحددة لسيناريو مستقبل الحشد في مواجهة الضغوط الخارجية، قد تتجلى أبرز هذه الضغوط في إجراءات اقتصادية وسياسية أو حتى عسكرية.
بيد أنه ينبغي الالتفات إلى أن الحشد الشعبي اضطلع بدور محوري في دحر داعش من عام 2013 إلى 2017، ما أكسبه مكانةً مرموقةً في قلوب شرائح واسعة من الشعب العراقي، في السنوات الأخيرة، زعم بعض مناوئي الحشد أنه مع انحسار التهديد الإرهابي لـ"داعش"، يواجه الحشد تحدي إعادة تعريف دوره، لكن المستجدات الأخيرة في المنطقة، وخاصةً صعود الجماعات التكفيرية في سوريا وتنشيط فلول وسجناء "داعش" المفرج عنهم وغيرهم من المسلحين المرتبطين بهذه الجماعات، أعادت هذا الخطر ليخيّم على استقرار العراق وأمنه.
من جهة أخرى، يمكن النظر إلى معارضة الأكراد لمشروع قانون الحشد الشعبي الجديد، باعتبارها جزءاً من تكتيك تفاوضي في أروقة البرلمان يمكن تذليله سريعاً باتفاق على قضية حقوق الموظفين وصرف الموازنة السنوية، في الأشهر الأخيرة، اكتنف العلاقات بين الحكومة المركزية وأربيل توتر وتحديات حول قضايا دفع رواتب موظفي حكومة الإقليم وملف بيع النفط.
في هذا السياق، كشف عارف الحمامي، عضو البرلمان عن الإطار التنسيقي، أن “الكتل الكردية تعمدت كسر النصاب في الجلسة المخصصة لقراءة قانون الحشد الشعبي بسبب خلافات أوسع نطاقاً مع ائتلاف إدارة شؤون البلاد”، واتهمهم بـ “محاولة استغلال قوانين خاصة لتحقيق مكاسب مالية غير مشروعة”.
أما في جبهة أهل السنة، فمن الواضح تماماً أن الرؤى ليست موحدةً أو متجانسةً، المشهداني نفسه، بصفته رئيس البرلمان وزعيم التحالف السني، يتبنى مواقف مرنة تجاه إقرار هذا القانون كما أسلفنا، ومن المؤكد أن استفحال التهديدات التكفيرية في سوريا قد دقّ ناقوس الخطر أولاً للمواطنين السنة القاطنين في المحافظات الغربية المتاخمة لسوريا، وسكان هذه المناطق تساورهم هواجس جدية من تداعيات الضعف الأمني والعسكري.
وفي هذا الصدد، أكد قاسم التميمي، الباحث في الشؤون السياسية، في حديث مع "المعلومة"، أن “قوات الحشد الشعبي ركن أساسي من أركان المنظومة الأمنية العراقية واضطلعت بدور محوري في تحرير المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم داعش الإرهابي، وقدمت تضحيات جسيمة لصون البلاد”.
وأوضح التميمي أن “رفض الأكراد والسنة لهذا القانون لا يستند إلى مسوغات جلية، وغالباً ما ينبع من سعيهم للظفر بامتيازات مقابل إقرار قوانين تمس مصالحهم”، وأشار إلى أنه “في ظل إجماع شبه تام في المجتمع الشيعي على أهميته، فإن الكتل الشيعية تملك القدرة على إقرار هذا القانون منفردةً”.
كما صرح معين الكاظمي، عضو الإطار التنسيقي، لوكالة "المعلومة": “هذا القانون بات جاهزاً للتصويت بعد مناقشته ودراسته وقراءته في البرلمان. كل ما تبقى هو تصويت الأغلبية في الجلسة المقبلة”. وأكد أن “ثمة احتمال لبلوغ النصاب بحضور ما يزيد على 165 نائباً، وبذلك يمكن إقرار هذا القانون والتوجه صوب إقرار قانون الخدمة والتقاعد لقوات الحشد الشعبي”.
وأشار الكاظمي إلى أن بعض النواب الذين انسحبوا من القراءة الثانية بررو انسحابهم بزعم أن هذا القانون لم يُدرج في جدول الأعمال مسبقاً، وأضاف: “هذا القانون يُعد الآن مقراً من الناحية السياسية”.