الوقت- في تطور خطير ينذر بتداعيات سياسية وإنسانية عميقة، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن رفع الحصانة القضائية عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وقد جاء هذا القرار في سياق دعوى قضائية أقامها أهالي قتلى إسرائيليين سقطوا خلال هجوم الـ 7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث زعم المدعون أن الوكالة قدمت دعماً غير مباشر لحركة حماس، هذا القرار، الذي يُعد سابقة في تعامل الولايات المتحدة مع منظمات الأمم المتحدة، يشكل تصعيداً خطيراً في الحملة السياسية والقانونية الرامية إلى تقويض دور الأونروا كأداة دولية لحماية حقوق اللاجئين الفلسطينيين.
الأونروا: الخلفية والدور التاريخي
تأسست وكالة الأونروا في عام 1949 بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، بهدف تقديم الخدمات الأساسية للاجئين الفلسطينيين الذين هُجروا من ديارهم خلال نكبة 1948، وعلى مدى أكثر من سبعين عاماً، ظلت الأونروا تقدم التعليم والرعاية الصحية والإغاثة لملايين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والأردن، واضطلعت بدور محوري في التخفيف من معاناة هؤلاء اللاجئين، رغم التحديات المالية والسياسية المستمرة.
وتحظى الوكالة، باعتبارها جزءاً من منظومة الأمم المتحدة، بوضع قانوني خاص يشمل الحصانة القضائية من الملاحقة أمام المحاكم الوطنية، وهو ما يُعتبر من الأسس التي تضمن استقلالها واستمراريتها في أداء مهامها الإنسانية.
القرار الأمريكي: السياق والدوافع
جاء القرار الأمريكي ضمن دعوى قضائية مرفوعة أمام المحكمة الفيدرالية في نيويورك، تتهم الأونروا بالسماح باستخدام منشآتها التعليمية والصحية لتخزين أسلحة أو العمل كوكر لعناصر حماس، وحسب وزارة العدل الأمريكية، فإن الوكالة لم تعد تتمتع بالحصانة القضائية التي كانت تحميها في السابق من هذه الملاحقات.
ورغم أن هذا القرار صدر شكلياً في عهد ترامب، إلا أن الإدارة الأمريكية الحالية لم تتراجع عنه أو تعلن إعادة الحصانة، ما يثير الشكوك حول استمرارية هذا التوجه كجزء من سياسة أمريكية ممنهجة تجاه تصفية رموز القضية الفلسطينية، وخاصة ملف اللاجئين الذي تمثله الأونروا.
يُذكر أن إدارة ترامب سبق أن أوقفت تمويل الأونروا بالكامل عام 2018، مبررة القرار بما وصفته بـ"عدم الكفاءة والتحامل السياسي" في عمل الوكالة، وهو ما اعتبره الفلسطينيون حينها خطوة تستهدف نزع الصفة الدولية عن قضية اللاجئين.
المزاعم الإسرائيلية: الاتهام والتوظيف السياسي
تدور معظم الاتهامات الموجهة إلى الأونروا حول ما تدعيه "إسرائيل" من "تورط" بعض موظفي الوكالة في هجوم الـ 7 من أكتوبر 2023، وقد سارعت "إسرائيل" إلى نشر معلومات تفيد بأن بعض العاملين في الوكالة شاركوا في الهجوم أو قدّموا تسهيلات لحركة حماس، وبناءً على هذه المزاعم، سنّ الكنيست الإسرائيلي قوانين تمنع الوكالة من العمل داخل الأراضي الإسرائيلية، وتلغي أي شكل من أشكال الاعتراف أو التعاون معها.
وتستغل حكومة الاحتلال الإسرائيلي هذه الادعاءات ضمن استراتيجية سياسية وأمنية تهدف إلى نزع الشرعية عن الأونروا، باعتبارها الحاضنة القانونية والسياسية لحق العودة الفلسطيني، ومن خلال الدفع نحو تفكيك الوكالة، تسعى "إسرائيل" إلى إنهاء ملف اللاجئين كأحد أركان القضية الفلسطينية، وتحويل اللاجئين إلى مجرد "سكان محتاجين" بدلاً من أصحاب حقوق.
التبعات القانونية للقرار
يعد قرار رفع الحصانة القضائية عن الأونروا سابقة خطيرة في العلاقات الدولية، فهو يضرب بجذور النظام القانوني الدولي الذي يكفل للمنظمات الدولية الحصانة من الملاحقة أمام المحاكم الوطنية، وإذا ما تم تثبيت هذا القرار قضائيًا، فسيشكل تحولاً عميقًا في قدرة الأمم المتحدة ووكالاتها على العمل في مناطق النزاع.
كما أنه يمهد الطريق أمام دعاوى تعويض قد تصل إلى مئات الملايين من الدولارات، الأمر الذي من شأنه أن يشل قدرة الوكالة المالية، ويضعها تحت ضغط مستمر، ويثني الدول المانحة عن مواصلة دعمها خشية تعرضها هي الأخرى للملاحقة أو الضغط السياسي.
ردود الفعل الفلسطينية والدولية
ردّت حركة حماس على القرار الأمريكي ببيان شديد اللهجة، وصفته بأنه "خطير ويجسد مرة أخرى انحياز إدارة واشنطن المطلق إلى الاحتلال"، وحذرت الحركة من أن القرار يمثّل محاولة لتصفية الوكالة باعتبارها رمزًا سياسيًا وإنسانيًا يعبّر عن حق العودة.
وطالبت حماس الإدارة الأمريكية بالتراجع الفوري عن القرار، كما دعت المجتمع الدولي إلى رفضه والتصدي له، معتبرة أن الاستهداف الأمريكي للوكالة هو امتداد للشراكة الأمريكية الإسرائيلية في العدوان على الشعب الفلسطيني.
في المقابل، لم تصدر حتى الآن مواقف حازمة من الأطراف الدولية الكبرى، بما فيها الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة نفسها، رغم أن الأخيرة كانت قد أكدت سابقاً على التزام الأونروا بالحياد ورفضت الاتهامات الإسرائيلية الموجهة إليها.
التداعيات الإنسانية على الأرض
إذا ما استمر الضغط الأمريكي والإسرائيلي لتقويض الأونروا، فإن النتائج الإنسانية ستكون كارثية، وخاصة في قطاع غزة الذي يعتمد أكثر من 80% من سكانه على مساعدات الوكالة في الغذاء والرعاية الصحية والتعليم، كما أن تراجع الثقة الدولية بقدرة الأونروا على العمل الآمن والقانوني سيؤدي إلى انسحاب محتمل للدول المانحة، وهو ما قد يدفع بمئات آلاف الأسر الفلسطينية إلى حافة المجاعة.
ومن شأن هذا الوضع أن يفاقم الأزمة الاجتماعية ويغذي مشاعر الإحباط والغضب لدى الأجيال الفلسطينية الشابة، ما قد يؤدي إلى موجات جديدة من التصعيد والاضطرابات الأمنية، سواء في غزة أو في مناطق الشتات الفلسطيني.
المعركة على الحقيقة : الأونروا كرمز سياسي
من المهم التنويه بأن الحملة على الأونروا ليست مجرد حملة إنسانية أو قانونية، بل هي في جوهرها معركة على الرواية التاريخية للصراع، فوجود الأونروا يشكّل اعترافاً دولياً مستمراً بأن هناك لاجئين فلسطينيين هُجّروا قسراً من ديارهم، وأن لهم حقوقًا تاريخية، أبرزها حق العودة.
وبالتالي، فإن إنهاء الوكالة أو إضعافها يشكل خطوة حاسمة في مشروع "تصفية القضية"، الذي بدأ منذ نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ومرورًا بإعلان "صفقة القرن"، ووصولًا إلى محاولات تجريم الدعم الدولي للفلسطينيين، بما في ذلك المساعدات الإنسانية.
ختام القول، ما العمل؟
أمام هذا المشهد المعقّد، يصبح من الضروري على القيادة الفلسطينية والفصائل الوطنية التحرك على عدة مستويات:
دبلوماسيًا: من خلال تفعيل أدوات الضغط داخل الأمم المتحدة، والعمل مع الدول الصديقة للحفاظ على مكانة الأونروا القانونية.
قانونيًا: بالدفاع عن الحصانة الأممية أمام المحاكم الدولية، وتحذير من العواقب المترتبة على خرق القانون الدولي.
إعلاميًا: بكشف الخلفيات السياسية للقرار الأمريكي، وربطها بمساعي تصفية القضية، وليس بمحاربة "الإرهاب" كما يُروج.
شعبيًا: بدعم الأونروا جماهيريًا وتنظيم حملات تضامن تؤكد على دورها الحيوي في دعم اللاجئين.
إن الحفاظ على الأونروا هو دفاع عن الحقيقة الفلسطينية، وعن حق العودة، وعن وجود شعب لا يزال يطالب بالعدالة بعد أكثر من سبعة عقود من التهجير والمعاناة.